مرضى غسيل الكلى يستنجدون بجودكم ونخوتكم..!
في كلام يوزن بماء الذهب, يقول العلامة ابن القيم في كتابه ''الوابل الصيّب'' في سياق حديثه عن الصدقة وأثرها في دفع البلاء: ''للصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء, ولو كانت من فاجر, أو من ظالم, بل من كافر, فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء, وهذا أمر معلوم عند الناس, خاصتهم وعامتهم؛ لأنهم جربوه, وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء) وكما أنها تطفئ غضب الرب, فهي تطفئ الذنوب والخطايا, كما تطفئ الماء النار, وفي الترمذي عن معاذ قال: ''كنت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفر, فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير, فقال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة, والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل في جوف الليل, ثم تلا (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) وفي بعض الآثار: باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطى الصدقة, ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (يا معاشر النساء, تصدقن ولو من حليكن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار) وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار, وفي الصحيحين عن عدي قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ''ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان, فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه, فاتقوا النار ولو بشق تمرة), وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: ''ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل البخيل والمتصدق, كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد, أو جنتان من حديد, قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما, فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه, حتى تغشى أنامله, وتعفو أثره, وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة مكانها'' ولما كان البخيل محبوسا عن الإحسان, ممنوعا عن البر والخير, وكان جزاؤه من جنس عمله, فهو ضيق الصدر, ممنوع من الانشراح, ضيق العطن, صغير النفس, قليل الفرح, كثير الهم والغم والحزن, لا يكاد تقضى له حاجة, ولا يعان على مطلوب, فهو كرجل عليه جبة من حديد, قد جمعت يداه إلى عنقه, بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها, وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة لزمت كل حلقة من حلقها موضعها, وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدق منعه بخله, فبقي قلبه في سجنه كما هو, والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه, وانفسح بها صدره, فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه, فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح, وقوي فرحه, وعظم سروره, ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبد حقيقا بالاستكثار منها, والمبادرة إليها, وقد قال تعالى: ''ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون'' كان عبد الرحمن بن عوف, أو سعد بن أبي وقاص, يطوف بالبيت, وليس له دأب إلا هذه الدعوة: رب قني شح نفسي, رب قني شح نفسي, فقيل له : أما تدعو بغير هذه الدعوة؟ فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد أفلحت. والفرق بين الشح والبخل: أن الشح هو شدة الحرص على الشيء, والإحفاء في طلبه, والاستقصاء في تحصيله, وجشع النفس عليه. والبخل منع إنفاقه بعد حصوله, وحبه وإمساكه, فهو شحيح قبل حصوله, بخيل بعد حصوله, فالبخل ثمرة الشح, والشح يدعو إلى البخل, والشح كامن في النفس, فمن بخل فقد أطاع شحه, ومن لم يبخل فقد عصي شحه, ووقي شره, وذلك هو المفلح (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وجود الرجل يحببه إلى أضداده, وبخله يبغضه إلى أولاده:
ويُظهِر عيبَ المرءِ في الناسِ ...
بخلُه, ويستره عنهم جميعاً سخاؤه
تغطَّ بأثواب السخاء فإنني ...
أرى كلَّ عيبٍ فالسخاءُ غطاؤه
وحد السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة, وأن يوصل ذلك إلى مستحقه بقدر الطاقة, وإذا كان السخاء محموداً, فمن وقف على حده سمي كريما, وكان للحمد مستوجبا, ومن قصر عنه كان بخيلا, وكان للذم مستوجبا, يقول شيخ الإسلام ابن تيمية, قدس الله روحه: أوحى الله إلى إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتدري لم اتخذتك خليلا؟ قال: لا, قال: لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ. وهذه صفة من صفات الرب, جل جلاله, فإنه يعطي ولا يأخذ, ويطعم ولا يطعم, وهو أجود الأجودين, وأكرم الأكرمين, وأحب الخلق إليه من اتصف بمقتضيات صفاته, فإنه كريم يحب الكريم من عباده, وعالم يحب العلماء, وقادر يحب الشجعان, وجميل يحب الجمال, وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ''السخي قريب من الله, قريب من الجنة, قريب من الناس, بعيد من النار, والبخيل بعيد من الله, بعيد من الجنة, بعيد من الناس, قريب من النار, ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل'' وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء, وإنما يرحم من عباده الرحماء, وهو ستير يحب من يستر على عباده, وعفو يحب من يعفو عنهم, وغفور يحب من يغفر لهم, ولطيف يحب اللطيف من عباده, ويبغض الفظ الغليظ القاسي الجعظري الجواظ, ورفيق يحب الرفق, وحليم يحب الحلم, وبر يحب البر وأهله, وعدل يحب العدل, وقابل المعاذير يحب من يقبل معاذير عباده, ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجودا وعدما, فمن عفا عفا عنه, ومن غفر غفر له, ومن سامح سامحه, ومن حاقق حاققه, ومن رفق بعباده رفق به, ومن رحم خلقه رحمه, ومن أحسن إليهم أحسن إليه, ومن جاد عليهم جاد عليه, ومن نفعهم نفعه, ومن سترهم ستره, ومن صفح عنهم صفح عنه, ومن تتبع عورتهم تتبع عورته, ومن هتكهم هتكه وفضحه, ومن منعهم خيره منعه خيره, ومن شاق شاق الله تعالى به, ومن مكر مكر به, ومن خادع خادعه, ومن عامل خلقه بصفة عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة, فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه, ولهذا جاء في الحديث ''من ستر مسلما ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة, ومن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله تعالى عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن يسَّر على معسر يسَّر الله تعالى حسابه, ومن أقال نادما أقال الله تعالى عثرته, ومن أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه'' لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر, ونجاه من حر المطالبة, وحرارة تكلف الأداء, مع عسرته وعجزه, نجاه الله تعالى من حر الشمس يوم القيامة إلى ظل العرش, وكذلك الحديث الذي في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوما:(يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه, لا تؤذوا المسلمين, ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من تتبع عورة أخيه يتبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته, فكما تدين تدان, وكن كيف شئت, فإن الله تعالى لك كما تكون أنت ولعباده) والمقصود أن الكريم المتصدق يعطيه الله.., جزاء له من جنس عمله''. أهـ
وإذا كانت الصدقة على المسكين بهذه الأهمية عند الله تعالى, فكيف بالصدقة على المسكين المريض الذي لا يجد من المال ما يعالج به مرضه المزمن, كما هو واقع كثير من مرضى الفشل الكلوي ونحوهم, وإذا كان الجود والكرم مستحباً للمسلم في كل أوقاته, فإنهما يتأكدان في شهر الصوم, كما (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان..).
وكما عوَّدنا ''بجوده'' رئيس تحرير جريدة ''الاقتصادية'' الأستاذ عبد الوهاب الفايز, وذلك بتنظيمه كثيرا من الملتقيات النافعة, فقد حضرت الإثنين الماضي في مقر الجريدة ملتقى برعاية الأمير عبد العزيز بن سلمان المشرف العام على جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي, وكان الهدف من الملتقى: التعريف بدور مراكز الغسيل في سد حاجة المرضى, وحاجة هذه المراكز إلى الدعم المستمر, ولا سيما في ظل طبيعة الغسيل المتكرر للكلى, والذي يكلف ما لا يقل عن 550 ريالا في الغسلة الواحدة, وإذا كانت تتكرر في الأسبوع الواحد ثلاث مرات, فهذا يعني أن كل مريض يحتاج إلى أكثر من 80 ألف ريال سنويا لسد حاجته..! وقد دهشت فعلا من حجم تفاني المسؤولين في النهوض بهذه المراكز, كما دهشت في الوقت نفسه من حجم العجز المالي لهذه المراكز في بلد تعج بكثير من الأموال والثروات ورجال المال والأعمال..! والسؤال الذي يطرح نفسه: ما دورنا تجاه هؤلاء المرضى؟
أين رجال الأعمال عن فرصة المشاركة في بناء مركز وقفي لغسيل الكلى؟
أين رجال الأعمال عن فرصة شراء أجهزة طبية لعلاج هؤلاء المرضى؟
أين رجال الأعمال عن تفقد هذه المراكز, وإسعافها بما تحتاج إليه من نواقص؟
أين رجال الأعمال عن فرصة كفالة علاج مريض بشكل سنوي؟
أين رجال الأعمال عن فرصة دفع البلاء بنحو هذه الأعمال الخيرية, وما يشبهها؟
لا.., بل أين نحن أيها القراء عن المساهمة بما نستطيع, ولو بـ 12 ريالا شهريا, عبر رسالة sms للرقم (5060), هل نعجز عن المساهمة بـ 144 ريالا سنويا لهؤلاء المرضى؟ إنها أقل بكثير من وليمة عشاء أو غداء!