البنوك المركزية تفقد مصداقيتها في تأديب الأسواق .. تقول شيئا وتفعل آخر
مثل آباء كثيرين، اعتدت أن أحاول تأديب أطفالي الذين يسيئون التصرف في الفترة التي تسبق "الكريسماس" بإخبارهم أنهم لن يتلقوا أي هدايا إذا ما أصروا على تصرفاتهم. لكن نجاح ذلك كان مؤقتا. سرعان ما اكتشف أطفالي أن تهديدي يفتقر إلى المصداقية. كانت التكاليف المصاحبة لعدم وجود هدايا في صباح "الكريسماس" ببساطة أكبر من أن يتحملها أي شخص (أنا أو بابا نويل) - وكانوا يعرفون ذلك.
هذا مثال على ما يسميه الاقتصاديون مشكلة الاتساق الزمني. حتى يكون الإجراء المستقبلي ذا مصداقية عند إعلانه، فالأفضل أن يكون الإعلان عندما يحين وقت التصرف. وحتى لو كان الإجراء المعلن حسن النية ـ سواء لتأديب الأطفال الذين يسيئون التصرف أو الأسواق المالية ـ فإنه سيفتقر إلى المصداقية ويثبت عدم فاعليته ما لم تكن متابعته ملموسة فعلا.
واجهت البنوك المركزية شكلا حادا من مشكلة الاتساق الزمني في الأعوام التي سبقت أزمة تكاليف المعيشة. كان التضخم خلال تلك الفترة أقل من المستوى المستهدف في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وأماكن أخرى. ناقش أكاديميون وصناع سياسات مزايا الاستراتيجية النقدية التي تهدف إلى إقناع الأسواق بأن السياسة ستكون أكثر مرونة لفترة أطول، وهو ما يسمح للتضخم بتجاوز هدفه لفترة من الوقت. والواقع أن كلا من الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة وبنك اليابان قد أعلنا استراتيجيات السياسة النقدية التي تهدف إلى تحقيق هذه الغاية تحديدا.
وسواء كان ذلك عن قصد أو (على الأرجح) عن طريق المصادفة، انتهى الأمر بعدد من البنوك المركزية إلى الإفراط في تحقيق هذه الطموحات أخيرا. وعلى مدى الأشهر الـ18 الماضية، تجاوز التضخم هدفه بشكل أكبر وأكثر اتساقا مما كان مخططا له في أي وقت على الإطلاق.
لكن مع تراجع التضخم العالمي الآن، وتردي التوقعات الاقتصادية، تواجه البنوك المركزية معضلة عكسية. كيف يمكن تأديب الأسواق بحيث تصدق أن السياسة ستظل أكثر تشددا لفترة أطول من أجل خفض التضخم إلى المعدل المستهدف وإصلاح مصداقية البنوك المركزية الضعيفة؟
استخدمت البنوك المركزية حتى الآن التوجيه المستقبلي، مع انحيازها إلى تشديد السياسة النقدية في المستقبل، لتحقيق هذا الأثر التأديبي. ولفترة قصيرة خلال الصيف، بدا أن هذا الأمر ينجح، حيث تشير توقعات أسعار الفائدة إلى أن الارتفاعات أكثر احتمالا من عدمها في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو خلال 2024، دون توقعات لخفض أسعار الفائدة حتى 2025 على أقرب تقدير.
لكن، مثل محاولاتي مع أطفالي، فإن آثار التأديب لما يسمى بعمليات "الفم المفتوح" (تصريحات البنوك المركزية التي تؤثر في أسعار الفائدة والتضخم) لم تدم طويلا. على الرغم من أن خطاب التشدد لفترة أطول الصادر من البنوك المركزية لم يتغير إلى حد كبير، فإن الأسواق المالية تتوقع الآن تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة خلال النصف الأول من 2024.
كانت توجيهات البنوك المركزية المستقبلية التي تقدمها للأسواق تفتقر إلى المصداقية للسبب نفسه الذي افتقرت إليه توجيهاتي ـ فهي لا تتمتع بالاتساق الزمني نظرا إلى الواقع الاقتصادي المحتمل في ذلك الوقت. وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، شهدنا ميلا واضحا في ميزان مخاطر التضخم والنمو في الاقتصادات الكبرى خلال 2024، حيث جاء كل من التضخم والنشاط الاقتصادي أقل من التوقعات.
كان الأمل بنمو اقتصادي في 2023 هو أنه مع بدء تضخم الأجور في تجاوز تضخم الأسعار في معظم الدول، ستبدأ القوة الشرائية للأسر في التعافي من الضربة الشديدة التي لحقت بها، الأمر الذي سيحفز الإنفاق حتى النصف الثاني من 2023 وما بعده. لكن في مقابل ذلك هناك أربع رياح اقتصادية معاكسة قوية ستزداد قوتها في 2024.
أولا، في حين أن الأجور الحقيقية ربما تكون في ارتفاع الآن، فإن القوة الشرائية لأغلب الأسر لا تزال أقل ماديا مما كانت عليه قبل أزمة تكاليف المعيشة. في المملكة المتحدة، من غير المتوقع أن يتعافى الدخل الحقيقي للأسر حتى 2027. ثانيا، دعمت الأسر والشركات على حد سواء مداخيلها التي استنزفت خلال الضغوط الأخيرة التي تعرضت لها من خلال سحب المدخرات، التي في الأغلب ما تراكمت بشكل لا إرادي أثناء الجائحة. تبخر الآن صندوق المدخرات هذا إلى حد كبير.
ثالثا ورابعا، وعلى النقيض من الماضي القريب، من غير المرجح أن توفر السياسات النقدية أو المالية التأمين للأسر والشركات التي تتطلع إلى المستقبل ـ بل العكس هو الأرجح. بالنسبة إلى السياسة النقدية، فإن الجزء الأكبر من ارتفاع الفائدة بمقدار أربع إلى خمس نقاط مئوية لا يزال سيضر الميزانيات العمومية للأسر والشركات. وبالنسبة إلى السياسة المالية، بعد التوسع الكبير الذي شهدته الأعوام القليلة الماضية، من المرجح أن يبدأ تباطؤ العام المقبل ثم يزداد قوة بعد ذلك.
كل هذا يضع ميزان المخاطر التي تهدد النمو على الجانب السلبي مباشرة. بحلول أوائل 2024، من المرجح أن يتوقف التضخم عن كونه العدو العام الأول. وسيحل محله ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الثقة والإنفاق، والضائقة المالية بين أعداد متزايدة من الشركات والأسر. ومع تراجع الاقتصاد، سيضعف أيضا خطاب البنوك المركزية.
في 2014، وصف سياسي بريطاني مارك كارني - محافظ بنك إنجلترا آنذاك - بأنه "شريك غير موثوق به" لأنه يقول شيئا ويفعل شيئا آخر. والان تخاطر البنوك المركزية في العالم بأن يصيبها مصير مشابه. وعلى الرغم من كل احتجاجاتها المتذمرة أنها ليست كذلك، ستقدم البنوك المركزية على مستوى العالم هدايا أسعار الفائدة للعامة خلال 2024.
*الرئيس التنفيذي للجمعية الملكية للفنون وكبير الاقتصاديين سابقا في بنك إنجلترا