حاملو الشهادات العليا يجب أن يكونوا صناعا للنمو والازدهار
لقد جعل الله سبحانه وتعالى الأرض منشأ وسكنا للإنسان حتى يعمرها ويعيش فيها عابدا صالحا محسنا طيبا آمنا متبعا لشرعه وتعاليم السنة النبوية، على المصطفى أفضل الصلاة والسلام. راح الناس يتقلبون فيها ويتكاثرون ويعمرون ويتفاخرون وينمون ويزدهرون ويتطورون فملأوها بالخيرات، وسعوا لتأمين مجتمعاتهم فكانوا بذلك يشكرون العزيز المنان الذي وفر هذا الأمان بأن ينشروا الإحسان. هذا كان مدعاة لأن يتبصر الإنسان أكثر في حياته وما حوله بجمع العلوم والمعلومات وتكوين الخبرات ومن ثم استخدامها والاستفادة منها لمنفعته وبقائه هو ومن يعول ومن يحسن إليهم، فكان معينا للعلم يستزيد منه وقتما تهيأ لذلك ويعلمه ويهبه لغيره لنشر المعرفة.
إن الظاهرة التي كشف عنها رجال الأمن البواسل بالقبض على فئة حملوا الشهادات العليا مسخرين قدراتهم لتحقيق أهداف لا تنتمي لنوع النسيج المؤلف منه مجتمعنا، لتستحق منا جميعا مراجعة الموضوع من حيث التربية الأسرية والتعليمية والتنشئة الدينية في المساجد وتأثيرها على طبيعة الفرد في حياته. فالشهادات العليا معيار يؤكد أن الحاصل عليها تخطى مستوى القراءة والكتابة والمعرفة العامة، لأنه حصل على تدريب في كيفية القراءة بين السطور وفهم العلاقات في مسيرة حياتنا وتدرب على حل المشكلات سهلها وصعبها، وهو بذلك محظوظ لأنه تمكن مما لم يتهيأ لكثيرين. هذه النخبة منوط بها أن تحاول جاهدة بمعارفها وغزارة أفكارها تحسين المعيشة، وتحسين البيئة وإصحاحها بكل ما تحمل الكلمات من معان، وتسعى في تأمين الحياة الكريمة للمجتمع من خلال: الوصول إلى كل ما فيه تسهيل على الناس للقيام بأعمالهم, فتح المجالات في العمل والدراسة والاستثمار والتنمية، وتطوير المهارات لتحسين ورفع وتيرة الأداء وزيادة الإنتاج. وتقنين استغلال الموارد والاستفادة من الطاقات للبناء والعمران وتطوير الأنظمة. لذلك كانوا أكثر الذين يجدُّون ويتعبون ويصبرون على الأخطاء لحصد أفضل النتائج، ويجتهدون في توضيح مواطن الضعف والخلل ومحاولة إيجاد الحلول ليكون الإنسان قويا عزيزا عالي الهمة دائما بما أنعم الله عليه.
لذلك لم يكن نيل الشهادة العليا للزينة وتجميل الجدار، وإنما دليل على كفاح حاملها الذي ميز بين النافع والضار، فحسن تناول المشكلات ونمّى معرفته ليقوم بدوره في إسداء النصح والوصول للرأي السديد. إنها إضافة نوعية للفرد الذي اتيحت له هذه الفرصة، أما أن يوجه الوكزة أو الضربة لذويه ومجتمعه من النساء والصغار والكبار وأولي الأمر منا، فليس إلا استسلام للوسواس؛ الذي كان من الجنة أو الناس. إن الخاسر الأكبر لكل تحرك يدل على عنف وقسوة تجاه المجتمع هو الوطن، وإذا ما اطمأننا للفوز بالجنة بهذه الكيفية المعوجة، فإن قراءتنا لما بين السطور ما هي إلا عنوان للقصور عن فهم ما يدور، وإصرار على التفرد بتنفيذ الحلول، وإعراض عن الإمعان والتدقيق في طبيعة الحياة. لذلك على الشباب اليوم أن يتعلم ويتثقف ويتمعن ويعي أنه إذا ما كُرِّم بنعمة فعليه أن يقف دون أهله وأقربائه ومجتمعه ووطنه. كما يجب أن يعي أن لا كامل إلا وجهه سبحانه، ولا راد لقضائه إلا هو، ولا معز ولا مذل إلا هو سبحانه ـ عز وجل ـ ولا بد أن نكون قدوة للأجيال المقبلة في حب الوطن والسعي لشموخه بكل أناة وصبر وحكمة.
أعتقد أن أمام رب الأسرة أولا دورا كبيرا في تنمية هذا الشعور لدى الأبناء، ثم من بعد ذلك القطاعات المعنية مثل التعليم، والإعلام، والعمل، والشؤون الاجتماعية، والخدمة المدنية، والرئاسة العامة لرعاية الشباب، دراسات أكاديمية وميدانية عديدة ومتشعبة في شؤون مختلفة. تحتاج هذه الدراسات إلى إيجاد تفسير لهذه الظاهرة الجديدة في مجتمعنا (وما أكثرها في هذا العصر) ثم مقارنتها بما سجل في تاريخ الأمم الأخرى. واقعيا لدينا في المدخلات كثير من الإيجابيات إلا أن في المخرجات ما خيب الآمال بعض الشيء ونأمل أن يكونوا ضحية إجرام أو أُخذوا على حين غرة فلم يتأكدوا من وجهتهم. أعتقد أن الدراسات ستوضح ما إذا كانت هناك علاقة عكسية بين عناصر المشكلة، وما إذا كان للتخصص العلمي علاقة بالفعل والتوجه. كيف يمكن أن يستسلم العقل الذي استنار بالعلم والإدراك والفهم المتعمق لأي حركات إغواء وتضليل؟ هل حاور الفرد نفسه ومجتمعه لئلا يسقط في فخ الهوى والضياع؟ أم سلك درب السحر والشعوذة (والعياذ بالله)؟ هل هناك استعداد فعلي للانحراف في سن متقدمة من عمر الفرد، وبتأهيل جامعي عال، وقد قُدِّم وفُضِّل على الفئات الأخرى في الحصول على الشهادة العليا ومن ثم التوظيف والتمثيل في المحافل والأنشطة الاجتماعية بمختلف أنواعها وغير ذلك من الشؤون؟ نريد أن نعرف ما إذا كان للبيئة الاجتماعية أو الحالة الاجتماعية والوضع الاقتصادي دور في استمرار تبني هذا الفكر حتى بعد ارتقاء المعالي والحصول على ما لم يحصل عليه كثيرون؟ هذا يعني أن أمام أساتذة المؤسسات التعليمية العليا واجب وطني نحو البحث في كيفية تفسير هذه الظاهرة التي تعني مؤشرا خطيرا استجد في مجتمعنا قد يؤثر في مسيرتنا التنموية بشكل عام.
نسألك اللهم أن تلهمنا عزيمة الرشد، وأن تؤتنا الحكمة وفصل الخطاب، وأن تهدنا إلى سواء السبيل، إنك على كل شيء قدير.