البحث عن التزام متبادل
في الخامس والعشرين من نيسان (أبريل) من العام الماضي كان الرئيس جورج بوش يستعد لاستقبال ولي العهد السعودي وقتها الأمير عبد الله بن عبد العزيز في مزرعته في كراوفورد ـ تكساس، وهو أول لقاء بينهما في المكان ذاته منذ ثلاث سنوات. وقبيل اللقاء تحدث بوش مع الصحافيين مركزا على نقطتين: أنه سيسأل السعوديين عن خططهم الخاصة بزيادة الطاقة الإنتاجية، وثانيهما توجيه الانتقاد للكونجرس ومجلس النواب لفشلهما في إجازة خطته للطاقة التي طرحها عليهم منذ ولايته الأولى، إذ كلف نائبه ديك تشيني بالعمل فيها بعد أسبوعين من دخوله البيت الأبيض.
عقب الاجتماع كان المسؤولون الأمريكيون يفيضون سعادة وهم يعيدون ذكر ما أوضحه لهم السعوديون عن تفاصيل خططهم لزيادة الطاقة الإنتاجية بالمواعيد الزمنية والإنفاق الرأسمالي المخصص لها لتحويل تلك الخطط إلى واقع قائم. والهدف إرسال رسالة واضحة أن الإدارة بذلت جهدا ونجحت في إقناع أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم بزيادة الإنتاج ليس فقط لتلبية معدلات الطلب المتنامية، لكن بأمل أن تسهم مثل هذه الأخبار في التأثير في معدلات الأسعار التي وصلت إلى 58 دولارا للبرميل وقتها، وهو ما يعني في حساب المستهلكين نحو 2.28 دولار لكل جالون في محطات الوقود، خاصة وموسم قيادة السيارات على الأبواب.
وبعد أربعة أشهر من هذا الإنجاز، نجحت الإدارة أخيرا في حمل مجلسي النواب والكونجرس على إجازة خطة بوش للطاقة، وهي الخطة التي تناولت كل شيء تقريبا ما عدا ترشيد الاستهلاك، وذلك في مفارقة لما استقر عليه العرف الأمريكي منذ أن برزت أزمة الطاقة إلى الوجود قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، ومعرفة الولايات المتحدة أنها تستهلك أكثر مما تنتج من هذه السلعة التي يقوم عليها نمط حياتها.
وفي تعريف لتشيني، عراب خطة الطاقة الأخيرة، أن الترشيد قيمة شخصية لا يمكن سحبها على مجمل الصناعة، وأنه من الأفضل التركيز على زيادة الإمدادات وتنويعها، فما الذي حدث بين صيف العام وآخر الشهر الماضي ليصبح موضوع تحرير الولايات المتحدة من خطر الإدمان على نفط الشرق الأوسط قضية أساسية تحتل مكانا محوريا في حديث بوش عن حالة الاتحاد؟ لا شيء، سوى أن شعبية الرئيس شهدت المزيد من التراجع خلال هذه الفترة بسبب النكسات التي تعرضت لها سياساته في مختلف الجبهات، من العراق إلى الشرق الأوسط إلى العجز المتفاقم في الميزانية، لدرجة أنه أصبح محاصرا ويتحرك بطريقة ردود الأفعال، وأن مستشاريه نصحوه باقتناص فرصة خطابه السنوي لأخذ زمام المبادرة السياسية على الساحة المحلية.
واللوم لا يقع على بوش وحده، وإنما في الطبيعة السياسية التي تجعل الرؤساء يتصرفون كما يحلو لهم، وهم في ذلك يتساوون مع رصفائهم في دول العالم الثالث، حيث مرّ الشكوى من غياب المؤسسية والتغييرات التي تطال البرامج الوطنية بسبب تغيير المسؤولين.
وميدان الطاقة أفضل مثال على هذا، فأداء الدولة العظمى الوحيدة في العالم لا يختلف كثيرا عن ذلك الذي تقوم به دولة في العالم الثالث. فعلى امتداد 35 عاما من "طق الحنك" عن ضرورة تقليص الاعتماد على النفط الأجنبي، تأتي الأرقام بنتائج معاكسة تفضح هذا الزعم، لا لشيء إلا لعدم اتساق السياسات.
وكمثال فإن الجهود التي بذلها الرئيس الأسبق جيمي كارتر في التصدي لقضية اعتماد الولايات المتحدة على النفط الأجنبي لا تزال هي التي أحدثت أكبر الآثار من تأسيس وزارة للطاقة والمخزون الاستراتيجي وغيرهما، لكن يأتي بعده رونالد ريجان الجمهوري ليكون أول قرار يتخذه إزالة شرائح الطاقة الشمسية من على سطح البيت الأبيض وإصدار العديد من القرارات التي تلغي جهود كارتر فيما يتعلق بخفض الاستهلاك والبحث عن طاقة بديلة.
وكان يمكن غض الطرف عن مثل هذه الممارسات على أساس أنها شأن داخلي يخص الأمريكان، لكن عندما يتفرغ مسؤولو مختلف الإدارات لحث الدول الأعضاء في "أوبك" على زيادة إنتاجها ورفع حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة، ويصدق هؤلاء هذا الحديث ويضعون خططهم ثم يفاجأوا أن الدولة العظمى تخطط للاستغناء عن النفط الأجنبي في غضون عقدين من الزمان، فإن الأمر يصبح غريبا ويحتاج إلى معالجة. وحتى كلود مانديل مدير الوكالة الدولية للطاقة أشار إلى أن مثل هذا الحديث يمكن أن يصيب مشاريع رفع الطاقة الإنتاجية بالشلل.
يبقى من المهم الخروج من هذه التجربة بدرس وتجاوز مناخات تبادل الاتهامات التي لا تؤدي إلى نتائج مفيدة، والاستعاضة عن ذلك بسؤال واضح ومحدد عما يريده المستهلكون ومدى التزاماتهم بمعدل معين من الطلب حتى يقوم المنتجون بدورهم المتوقع منهم وهو تأمين الإمدادات.
هذا الجانب طرحته الاستراتيجية بعيدة الأمد التي وضعتها "أوبك" بصورة معممة، والآن جاء التوقيت الملائم لوضع النقاط على الحروف ومن ثم تحويل حوار المنتجين والمستهلكين من أحاديث هلامية إلى قضايا عملية ذات التزامات محددة من قبل الطرفين.