هل تعيد المعادن الحيوية التجارة الدولية إلى عصر صراع القوى الكبرى؟
"إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تحجيم قدرات الصين فعليها التحالف مع جمهورية الكونغو الديمقراطية".. من وجهة نظر البعض تبدو تلك العبارة مدعاة للسخرية نظرا لتفاوت القوة بين الصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية ولبعد المسافة بين البلدين وللطابع الكوني للطموحات الصينية وما تمثله من تحد للولايات المتحدة، علاوة على ما تعانيه جمهورية الكونغو الديمقراطية من صراعات داخلية وتمزق سياسي ووضع اقتصادي شديد الصعوبة يجعل التحالف معها عبئا على من يفكر في ذلك. مع هذا نجد أن تلك القناعة سائدة لدى عدد من الخبراء في مجال الأمن القومي الأمريكي، فما الأسباب؟
جوهر هذا الاعتقاد يعود إلى أن العقود المقبلة ستشهد تغيرات جذرية في مجال إنتاج الطاقة، بما لا يقل أهمية عن التحول التاريخي من الاعتماد على الفحم إلى النفط، وبينما تعمل الصناعات الأمريكية على أن تفطم نفسها تدريجيا عن الوقود التقليدي، فإن الطلب على بعض أنواع المعادن مثل الكوبالت أحد المكونات الرئيسة في صناعة البطاريات الكهربائية وأجزاء مختارة من السيارات الكهربائية والهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من التقنيات سيرتفع بشكل كبير، وبحلول عام 2040 سيزيد الاستخدام العالمي للمعدن أكثر من 20 ضعفا مقارنة بعام 2020.
وإذا كان اقتصاد الغد سيعتمد على الكوبالت وغيره من المعادن النادرة والمهمة فإن جيوش الغد ستعتمد عليها أيضا نظرا لأنها ضرورية في تصنيع أجزاء من الطائرات المقاتلة والذخائر الدقيقة وتكنولوجيا التخفي من الرادارات، وفي ظل ذلك الاحتياج المتنامي للكوبالت وغيره من المواد الأرضية النادرة تحتدم المنافسة بين الولايات المتحدة والصين بشكل لم يسبق له مثيل.
لكن ما دخل جمهورية الكونغو الديمقراطية بهذا؟ الأمر باختصار أن لديها مخزونا من الكوبالت يفوق ما لدى بقية دول العالم مجتمعة، في الوقت الذي تقوم فيه الصين بتكرير 80 في المائة من الكوبالت في العالم و60 في المائة من الليثيوم وتهيمن على إنتاج المعادن الأخرى الضرورية في مجال انتقال الطاقة والتصنيع العسكري، بينما لا تمتلك الولايات المتحدة القدرة على إنتاج الكوبالت مع تراجع مخزونها من 13 ألف طن خلال الحرب الباردة إلى 333 طنا فقط عام 2021.
وبينما تمضي البلدان المختلفة قدما لتعزيز العمل في مجال الطاقة النظيفة، يصبح السعي لتحقيق أمن الطاقة غير منفصل عن الوصول الموثوق به إلى المعادن الحيوية بأسعار معقولة.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور إن. دي. سميث أستاذ علم المعادن في جامعة جلاسكو، "التحول المستمر في مجال الطاقة يعمل على تحويل الاقتصاد الدولي إلى نظام كثيف الاستخدام للمعادن، كما أدى التحول العالمي لإزالة الكربون إلى زيادة الطلب على المعادن التي تعد ضرورية لتقنيات الطاقة النظيفة والمركبات الكهربائية، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت والجرافيت والنحاس والألمنيوم والعناصر الأرضية النادرة، فالسيارات الكهربائية على سبيل المثال تتطلب ستة أضعاف المدخلات المعدنية للسيارات التقليدية".
ويلقي الدكتور إن. دي. سميث الضوء على أن إنتاج عديد من المعادن المهمة والضرورية لتحول الطاقة يتركز جغرافيا في بعض المناطق، ففي عام 2019 استحوذت الكونغو الديمقراطية على نحو 70 في المائة من إنتاج الكوبالت العالمي، في حين أسهمت الصين بنحو 60 في المائة من الإنتاج العالمي للعناصر الأرضية النادرة، علاوة على ذلك فإن سلاسل التوريد لهذه المعادن المهمة التي تشمل التعدين والمعالجة والتكرير والتصنيع والاستخدام النهائي تخضع في الغالب لسيطرة عدد قليل من البلدان.
وفي الواقع فإن قطاع الطاقة بات محركا رئيسا للطلب على المعادن منذ منتصف عام 2010، وكشفت تقارير دولية عن زيادة قدرها ثلاثة أضعاف في الطلب على الليثيوم وزيادة بنسبة 70 في المائة على الكوبالت وزيادة بنسبة 40 في المائة في الطلب على النيكل خلال الفترة من 2017 إلى 2022، وبسبب السوق المتنامية لبطاريات الليثيوم أيون لتخزين الطاقة، زاد الطلب العالمي على الكوبالت لتصنيع البطاريات بمقدار 26 ضعفا خلال العقدين الأولين من هذا القرن، وحدث 82 في المائة من هذا النمو في الصين.
ساعدت الوفرة المحلية في النفط والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة في خفض الاعتماد الأمريكي على واردات الهيدروكربون، لكنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على استيراد المعادن لتوسيع نطاق استخدام تكنولوجيا الطاقة النظيفة وسد الاحتياجات المتزايدة للبنية التحتية، ومن بين 50 معدنا تدخل ضمن قائمة المعادن الحرجة لعام 2022 تعتمد الولايات المتحدة على استيراد 12 معدنا بشكل كامل، و31 معدنا آخر تستورد أكثر من نصف احتياجاتها.
يشير عديد من الخبراء إلى أن هناك ستة معادن ذات أهمية كبيرة للطاقة النظيفة تواجه مخاطر في العرض في الأمد القصير، هي الكوبالت والديسبروسيوم والغاليوم والجرافيت الطبيعي والايريديوم والنيوديميوم وفي الأمد المتوسط سيرتفع هذا العدد إلى 12 ليضم الليثيوم والنيكل والجاليوم والبلاتين والمغنسيوم وكربيد السليكون.
وتشير الدكتورة روز مانموهن سينج أستاذة التجارة الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد إلى هيمنة الصين على سلاسل توريد المواد والمعادن المهمة واعتماد الولايات المتحدة على المعادن المستوردة من الخارج وتحديدا من الصين في أكثر من نصف إمداداتها من 25 سلعة معدنية، وبالطبع فإن هذا يجعل الاقتصاد والصناعات الأمريكية عرضة لانقطاع الإمدادات القادمة من الصين خاصة في أوقات التوتر الجيوسياسي.
لكن الدكتورة روز مانموهن سينج ترى أن الاستراتيجية الدولية للمعادن في حاجة إلى إعادة النظر والتركيز على جانب العرض وليس الطلب. وتقول لـ"الاقتصادية"، "تتحدث الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عن التعاون لضمان أمن الطاقة النظيفة وينبغي أن تكون الأولوية الكبرى لتعزيز الروابط التجارية مع دول التعدين الكبرى، فتنسيق الطلب بين كبير المشترين لن يقدم حلا جذريا للمشكلة إنما في أفضل الأحوال يؤجل لحظة انفجار الاسواق".
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن هناك مشكلة لدى الولايات المتحدة والأوروبيين تتعلق بعجز الطرفين عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال المعادن، فالاتحاد الأوروبي لن يفلح بحلول عام 2030 إلا في تحقيق 10 في المائة من احتياجاته من المعادن محليا، وفي الولايات المتحدة سيحتاج المصنعون في نهاية المطاف إلى الحصول على معظم احتياجاتهم من شركاء الولايات المتحدة في مجال التجارة الحرة مثل أستراليا وبلدان أمريكا الجنوبية. هذا الإدراك هو ما يجعل الولايات المتحدة تركز نظرها على إفريقيا وتحديدا جمهورية الكونغو الديمقراطية باعتبارها مصدرا رئيسا لعديد من المعادن الاستراتيجية وفي مقدمتها الكوبالت.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية"، كولين بيترسون الباحث في الشؤون الإفريقية، "لا تستطيع قوى السوق وحدها ضمان أمن المعادن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، خاصة في مواجهة الهيمنة الصينية شبه الكاملة على هذا القطاع، وفي الأغلب ستحافظ واشنطن على القوانين التي توفر للكونغو أولوية الوصول إلى الأسواق الأمريكية بدون رسوم جمركية التي يفترض أن تنتهي صلاحياتها عام 2025".
ويضيف "وستعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز وضعية شركات المعادن الأمريكية العاملة في إفريقيا عامة والكونغو الديمقراطية على وجه التحديد، لتنال حصة أكبر من احتياطيات المعادن الحيوية، إضافة إلى ذلك سيساعد مزيد من الاستثمارات الأمريكية في الكونغو خاصة في مجال المعادن على تعزيز الشراكة الثنائية بين البلدين".
تكشف سوق المعادن الحيوية في الوقت الراهن أن فكرة عودة التجارة العالمية إلى عصر صراع القوى العظمى أصبح الآن راسخا أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، وينبئ ذلك بمزيد من التشنج والاحتقان في علاقات القوى بين الولايات المتحدة والصين، لكن استعراض القوى بين الطرفين سيتطلب الاعتماد على مصادر للمعادن لا يتمتع الطرفان بالسيادة عليها، ما سيوجد مزيدا من التنافس لتأمين الوصول إلى تلك المصادر، وتبريرات دائمة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، لضمان الحفاظ على خطوط الإمداد الاستراتيجية وتأمينها.