ارتفاع الطلب وتقلص الموارد .. الأزمة التي تواجه الأطباء
عندما بدأت ماريا ريد عملها كطبيبة عامة في شيفيلد في أوائل الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، كانت مسؤولة عن 1600 مريض، وبعد صباح يوم من الاستشارات الطبية كانت متفرغة لقضاء معظم فترة ما بعد الظهر في المنزل مع أطفالها الثلاثة الصغار قبل العودة لإجراء عملية جراحية في المساء.
وبعد مرور أربعة عقود، لا تزال ريد، التي ولدت عام 1948 قبل شهرين من تأسيس هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة، تقدم الرعاية للسكان المحليين. لكن لديها الآن قائمة تضم ما يقرب من عشرة آلاف مريض، والوتيرة مستمرة عندما تبدأ في الساعة الثامنة صباحا حتى تنتهي بعد نحو عشر ساعات.
ويشير العبء المتزايد في عملها إلى أزمة أوسع في الطب العام، الذي كان يسيطر عادة على الوصول إلى الخدمات الصحية الوطنية الأوسع، الذي يكافح تحت وطأة الطلب الهائل من عدد متزايد ومتقادم في العمر للسكان.
وعلى الرغم من تعهد حكومة المحافظين في عام 2019 بإيجاد ستة آلاف وظيفة طبيب عام إضافية خلال البرلمان الحالي من أجل تعزيز الرعاية خارج المستشفيات، إلا أن عدد الأطباء العامين المدربين بالكامل أصبح الآن أقل مما كان عليه قبل أربعة أعوام، في حين نمت أعداد وظائف استشاري المستشفيات.
وأظهرت البيانات الرسمية المنشورة الخميس أن العدد المكافئ للأطباء العامين بدوام كامل ارتفع بنسبة 1.1 في المائة في العام حتى سبتمبر، لكن عدد الأطباء العامين المؤهلين الدائمين، باستثناء الموجودين في التدريب أو الأطباء البدلاء، انخفض بنسبة 0.7 في المائة.
تشتد الإجهادات خصوصا في المجالات التي تعاني الحرمان الشديد مثل منطقة سكاي إيدج في شيفيلد، التي أمضت فيها ريد كل أعوام حياتها المهنية باستثناء أربعة أعوام.
ووجدت "هيلث فاونديشن"، وهي منظمة بحثية، أن الأطباء العامين الذين يخدمون السكان الأكثر احتياجا مسؤولون عن عدد من المرضى يزيد بنسبة تقارب 10 في المائة على نظرائهم في المناطق الأكثر ثراء ويتلقون في المتوسط تمويلا أقل بنسبة 7 في المائة لكل مريض.
وقالت ريد: إن الخوف من الخطأ في التشخيص أو نسيان إجراء إحالة ضرورية إلى المستشفى "يخيم على الجميع، وكلما زاد الضغط عليك، أصبح الوضع أسوأ، وأصبحوا مرهقين".
في الشهر الماضي، وجدت دراسة أجراها مركز نافيلد تراست للأبحاث أن نصف الأطباء فقط من المدربين في المملكة المتحدة، الذين حصلوا على دورات تدريبية في الطب العام استمروا في العمل بدوام كامل. إن ممارسة ريد تجسد هذا الاتجاه. واختار أغلبية زملائها ساعات العمل بدوام جزئي، لعدم قدرتهم على تحمل قسوة العمل خمسة أيام في الأسبوع مع محافظتهم على الحياة الأسرية.
وأشارت كاميلا هوثورن، التي ترأس الكلية الملكية للأطباء العامين وتمارس الطب العام في مجتمع محروم في جنوب ويلز، إلى أن ابنتها البالغة من العمر 28 عاما، التي تأهلت للتو كطبيبة عامة، تعمل أيام الإثنين والأربعاء والجمعة لتجنب ضغوط العمل لأيام متتالية.
وأضافت: "يمكن للأطباء العامين المتدربين أن يروا كيف يعمل بقيتنا. وأنهم يفكرون بين أنفسهم قائلين: لا أستطيع أن أقوم بذلك على مدار الـ40 عاما المقبلة... وأسبوع عمل لثلاثة أيام للطبيب العام يعد أكثر من ساعات العمل في الأسبوع التقليدي بدوام كامل".
وعلى الرغم من تلك الضغوط، لا تزال هوثورن تعتقد أن نموذج المملكة المتحدة، الذي يكون فيه الأطباء العامون بمنزلة حراس النظام الصحي الأوسع، يظل الطريقة الأكثر كفاءة لإدارة خدمات الرعاية الأولية.
وقالت هوثورن: "عندما تنظر إلى النماذج الأخرى حول العالم، ستجد أنها تقارن بها بشكل جيد". إلا أن "توفير الموارد اللازمة لها لم يتم لفترة طويلة".
وأضافت أزمة تكلفة المعيشة إلى هذه الضغوط، حيث تعد عيادة ريد من بين الـ10 في المائة الأكثر حرمانا في البلاد. وقالت إن المشكلات غير الطبية، مثل السكن السيئ أو عدم وجود عمل بأجر لائق تؤثر في مرضاها "إنها موجودة طوال الوقت... في بعض الأحيان، تصبح إشكالية على وجه التحديد، لكننا نعلم أن هذه هي المشكلة الأساسية دائما".
وأضافت أن الحرمان يقيد حياة مرضاها. وكانت المدرسة الابتدائية المحلية قد استثمرت أخيرا في غسالة ثانية لتنظيف ملابس التلاميذ، لأنهم يعلمون أن الأهالي لا يستطيعون دائما شراء مسحوق الصابون. وبعض الأسر تتقاسم فرشاة أسنان واحدة، وفي الأغلب ما كان أولئك الذين يعتمدون على بنك الطعام المحلي يرفضون المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس، ويطلبون طعاما لا يحتاج إلى الطهي لتوفير تكاليف المحروقات.
وأفادت بأن المراسيم الصادرة عن الحكومة ورؤساء هيئة الخدمات الصحية الوطنية حول الوقاية من الأمراض وحاجة المرضى إلى "الإدارة الذاتية" لحالاتهم لا علاقة لها بالطريقة التي يستطيع مرضاها أن يعيشوا بها فعلا. ويعاني واحد من كل عشرة أشخاص البطالة، في حين أن واحدا من كل أربعة أشخاص يدخن، فيما تعاني النسبة نفسها تقريبا السمنة.
وأشارت ريد إلى مناقشة أجريت قبل بضعة أعوام مع مسؤول كبير في وزارة الصحة حول عدد مرضى الجهاز التنفسي الذين ما زالوا يدخنون ويعيشون في فقر ويكافحون من أجل اتخاذ خيارات صحية.
وأضافت: "قلت له: ما رأي العاملين في وزارة الصحة والوزراء في هذه المجموعة من الناس، وكيف يمكن مساعدتهم؟ وما إلى ذلك. فقال: حسنا، لأكون صادقا، إنهم يرغبون في بناء جدار كبير حولهم ونسيان وجودهم".
وترى أنها عودة إلى الفكرة الفيكتورية حول الفقراء المستحقين للمساعدة والفقراء غير المستحقين، وأعتقد أن هؤلاء ينظر إليهم على أنهم فقراء غير مستحقين.
كما أدت تخفيضات التمويل على مدى أعوام عديدة إلى تآكل شبكة الأمان للخدمات الأخرى التي كان يمكن للأطباء العامين مثل ريد الاعتماد عليها سابقا لدعم المرضى الذين يعانون مشكلات غير طبية.
وقالت إنه في الماضي كان للطب العام "اتصال جيد مع الأخصائيين الاجتماعيين لكنهم الآن مقيدون للغاية. وفي مرحلة ما، كان لدينا هيئة المشورة للمواطنين في الموقع، وقد أحدث ذلك فرقا كبيرا. ولكن بعدها ذهب المال المخصص لذلك... ولم نحصل عليه منذ أعوام".
وأضافت أن الجمعيات الخيرية مثل إيج يو كيه- Age UK، وجمعية صندوق التنمية مانور آند كاسيل الخيرية المجتمعية المحلية، التي تساعد الأشخاص الذين يعانون مشكلات مثل الديون أو السكن غير المناسب، لا تزال "تقدم الدعم الأساسي". لكن خدماتها تتعرض لضغوط هائلة.
وقال فال جونز، قائد الفريق في الصندوق: إن الصندوق يدير الآن قائمة انتظار، وهي المرة الأولى التي كان يتعين عليه فيها على الإطلاق أن يطلب من العملاء الانضمام إلى قائمة الانتظار. إن تمويله دائما غير مستقر.
وأوضحت ريبيكا فيشر، الزميلة البارزة في السياسات في منظمة هيلث فاونديشن وطبيبة عامة بدوام جزئي، أنه قد تكون هناك طرق لتخفيف العبء على الأطباء العامين من خلال تحديد "عدد محدود من الحالات أو المواقف التي يكون من المناسب فيها الذهاب مباشرة إلى خدمة أخرى".
على سبيل المثال، يمكن أن يشمل ذلك قيام أخصائي البصريات بالإحالة مباشرة إلى عيادات العيون في حالة الاشتباه في إعتام عدسة العين.
لكنها أشارت إلى أنه قد يكون من الضروري الدخول في "المنطقة الوعرة جدا من الناحية السياسية" حول تحديد ما يمكن وينبغي أن يوفره الطب العام في المستقبل.
وأضافت: "بطريقة ما، نحن بحاجة إلى التوصل إلى فهم أفضل لما يتوقعه الجمهور... ثم إما تغيير الموارد لتتناسب مع التوقعات، أو تسهيل إجراء نقاش عام صادق بطريقة ما حول الفجوة بين التوقعات العامة وما تستطيع هيئة الخدمات الصحية الوطنية تقديمه".
الأمر الأساسي بالنسبة إلى ريد هو أن يشعر مرضاها بأن حياتهم تستحق العيش من أجلها، والتمتع بصحة. وتضيف: "إن بعض هؤلاء الأطفال حتى في الـ11 من العمر ليس لديهم أمل في المستقبل. وقالت: "هناك أطفال في السادسة من العمر يحاولون قتل أنفسهم، حيث يركضون أمام السيارات لأن حياتهم مروعة للغاية".
وأضافت: "ما لم تتعامل مع ذلك، وتؤمن الوظائف للناس وتشعرهم بأنهم يستحقون شيئا ما، فإن صحتهم ستكون دائما ثانوية".
وقالت وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية: "إننا نتخذ إجراءات لتوظيف مزيد من موظفي الطب العام والاحتفاظ بهم، ففي العام الماضي شهدنا رقما قياسيا بلغ 4302 طبيب يقبلون مقعدا مخصصا لتدريب الأطباء العامين وسيزيد عدد أماكن التدريب إلى ستة آلاف كجزء من خطة هيئة الخدمات الصحة الوطنية للقوى العاملة على المدى الطويل.
وأوضحت أن هناك "أكثر من ألفي طبيب إضافي في الطب العام مقارنة بيونيو عام 2019".