المنافسة على التنقل .. كيف تعيد الشركات التفكير في مكاتبها؟

المنافسة على التنقل .. كيف تعيد الشركات التفكير في مكاتبها؟

شركة الاتصالات البريطانية "بي تي" مسؤولة عن تركيب النطاق الترددي العريض فائق السرعة في ملايين المنازل والشركات في بريطانيا. لكن عندما يتعلق الأمر بمكاتبها الخاصة، لم تصل التكنولوجيا إلى المعايير المرضية، حيث كانت تفشل الاجتماعات في مقرها القديم في حي المال في لندن بشكل منتظم بسبب الاتصالات السيئة. التكنولوجيا "لم تصل إلى المستوى المطلوب"، وفقا لفريق العمل في "بي تي" المكلف بإيجاد وتطوير موقع مكتبي جديد.
تعد "بي تي" واحدة من كثير من الشركات التي نقلت قوتها العاملة إلى أماكن عمل جديدة أكثر جاذبية، حيث تشجع الموظفين على العودة إلى المكتب بعد الجائحة.
بالنسبة إلى كثيرين، كان التكيف مع أنماط العمل الهجين فرصة لتقليص وتقليل تكاليف المباني، لكنه مهد الطريق لإعادة التفكير بشكل أكثر جوهرية فيما ينبغي أن يكون عليه مكان العمل الحديث، بدءا من قضايا مثل الالتزامات الصافية الصفرية والتكنولوجيا، إلى الموقع ورفاهية الموظفين.
وبينما تتقلص أجزاء من سوق المكاتب -أشار المحللون في بنك جيفريز أخيرا، إلى أن المساحات المكتبية الشاغرة في لندن بلغت أعلى مستوياتها منذ 30 عاما- لا يزال هناك طلب على المواقع المركزية الحديثة والأصغر حجما. كانت هناك 590 صفقة مبان مكتبية في لندن عام 2022، وهو أكبر عدد من الصفقات المسجلة، وفقا لوكالة "كوشمان آند ويكفيلد"، مع أقوى طلب على المباني التي تقل مساحتها عن 25 ألف قدم مربعة، التي تستوعب عادة نحو 150 موظفا.
لقد استأجرت شركات المحاماة، بما في ذلك "ريد سميث"، "كليفورد تشانس آند أدلشو جودارد"، على مساحة قياسية بلغت 1.5 مليون قدم مربعة في عاصمة المملكة المتحدة العام الماضي، 95 في المائة منها كانت جديدة أو مجددة، وفقا لوكالة "نايت فرانك". ويقوم بنك إتش إس بي سي بنقل مقره العالمي من كناري وارف إلى موقع أكثر مركزية وأكثر مراعاة للبيئة في حي المال، وهي خطوة تتبع خطة مشابهة في نيويورك. وأبرمت شركة الاستثمار الأمريكية بيمكو اتفاقية بملايين الجنيهات الاسترلينية لاستئجار مساحة حديثة جديدة تماما في منطقة مارليبون في لندن.
قال مارتن ديفاين، من شركة الخدمات العقارية التجارية أفيسون يونج، "إن الموظفين يريدون أن يشعروا بأنهم جزء من شيء أقل دنيوية، وبالتالي أصبح المكتب بالتأكيد محوريا لجذب الموظفين والاحتفاظ بهم".
وأضاف "لقد أتاحت الجائحة حقا للناس وقتا للتفكير، وأصبحت عقلية ما بعد الجائحة تتمثل في سأتخذ القرارات بنفسي. يرغب الناس في أن يشعروا بالارتباط بالمساحة التي يعملون فيها من منظور صحي واجتماعي ومنظور اجتماعي وفردي. وإذا لم تدرك الشركات ذلك، فستعاني من أجل النمو".
زارت "فاينانشيال تايمز" ثلاث شركات قامت بعمليات نقل كبيرة لمكاتبها، لدراسة كيفية تطور أماكن العمل.

مكتب الوجهة

عندما أعلن بنك سانتاندر في المملكة المتحدة عام 2021 أنه سينقل مقره الرئيس من وسط لندن إلى مبنى ضخم من أحدث طراز في ميلتون كينز، كانت خطته تتمثل في إيجاد مكان عمل يرغب الموظفون في القدوم إليه، وليس مكانا يجب عليهم القدوم إليه.
يتسع المبنى المكتبي الذي تبلغ تكلفته 150 مليون جنيه استرليني، ويقع على بعد 30 دقيقة بالقطار شمال العاصمة، لنحو خمسة آلاف موظف ويشبه مدينة تكنولوجية. يشبه الطابق الأرضي شارعا تجاريا داخليا لمحال التجزئة، يحتوي على مطعم راق، ومصنع جعة صغير، ومخبز، وقدرة على استيعاب شاحنات الطعام في الشوارع، وكلها مفتوحة للجمهور.
لقد كانت مدينة ميلتون كينز -التي تأسست عام 1967- منذ فترة طويلة قاعدة لكثير من موظفي بنك سانتاندر في المملكة المتحدة، بما في ذلك فرق تكنولوجيا المعلومات والعمليات. لكن المكاتب كانت في مواقع متفرقة و"لم يتم الاستثمار فيها"، وفقا لستيفن وايت، مدير العمليات في البنك، مضيفا "يتعلق الأمر الآن بمقر رئيس لجميع موظفي بنك سانتاندر في المملكة المتحدة".
لقد تخلص من تخطيطات ما قبل الجائحة لمصلحة بيئة أكثر ديناميكية. وقد تم التخلص من صفوف المكاتب وتم استبدالها بطاولات كبيرة ذات إعدادات فردية مختلفة، بما في ذلك شاشات مزدوجة مقوسة، حيث يمكن للموظفين توصيل أجهزة الحاسوب المحمولة الخاصة بهم. وبعضها الآخر ترك فارغا من أجل مرونة استخدامه، مثل اجتماعات فرق العمل لمتابعات تطوراته. ويوجد جناح ضخم من قاعات الاجتماعات، ومساحة للعمل المركز، ومناطق استراحة لتناول القهوة أو لقاءات الفريق غير الرسمية، وأكشاك خاصة. أما الطابق الثاني فهو مساحة عمل مشتركة لرواد الأعمال المحليين.
وقال شون إسبيناس، المدير الإبداعي في شركة أوكترا، المتخصصة في تصميم المكاتب، "إن توفير المساحات الهادئة وأكشاك الهاتف الخاصة كان بمنزلة تحول كبير مقارنة بما كان عليه قبل الجائحة". وقال "إنه بعد العمل في المنزل لهذه الفترة الطويلة، أصبح الناس أكثر وعيا بالضوضاء في المكاتب ذات المخطط المفتوح".
قبل عام 2020، أوضح إسبيناس أن نحو 70 في المائة من المساحة كانت تشغلها دكات تقليدية من المكاتب، بينما كانت نسبة 30 في المائة المتبقية مشتركة. أما الآن، فمع معظم عملاء شركة أوكترا، تم التقسيم بنسبة 50-50.
وأضاف إسبيناس أن "الناس سينجذبون إلى المساحة التي تناسب عقليتهم"، على سبيل المثال، يتجمع المنفتحون حول المناطق الاجتماعية / المشتركة، والانطوائيون في مناطق أكثر هدوءا".
لكنه يعتقد أن التصميم الجيد يشجع على التغيير السلوكي، إذ يقول "لا ينبغي أن نأخذ في الحسبان الفصل البصري والمسموع بين المناطق المختلفة فحسب، بل أن نأخذ في الحسبان القرب ومسافة التنقل بين المنطقتين. عندما نتمكن من تصميم المساحات بهذه الطريقة، فإنها تكون ناجحة جدا، لأنها تبدو طبيعية للمستخدمين".
أخذ بنك سانتاندر في المملكة المتحدة في الحسبان الجوانب البيئية، حيث يقوم مبناه بتجميع مياه الأمطار لري مزروعاته ولغسل المراحيض، كما أن لديه خلايا ضوئية على السطح تولد نحو 15 في المائة من كهرباء الموقع. إنه مشيد حول ردهة ضخمة توفر كثيرا من الضوء الطبيعي.
ويشجع البنك الموظفين على قضاء يومين تقريبا من الأسبوع في المكتب، حيث يمكن أن تؤدي ملاحظات الموظفين إلى مزيد من التعديلات.
وأضاف إسبيناسي "لا يتم الانتهاء من مساحة العمل مطلقا عند التسليم. عليها أن تتطور".

الموقع .. الموقع .. الموقع

نحت شركة كاريز لتجارة التجزئة في مجال الأجهزة الكهربائية منحى عكسيا، حيث نقلت موظفيها من موقع في ضواحي لندن إلى الطابق الثامن من مكتب شركة وي وورك المركزي.
ومع تحول الشركة إلى العمل الهجين، قالت باولا كوجلان، رئيسة الموظفين ومسؤولة الاتصالات والاستدامة "كان لدينا موقع صناعي للغاية. لقد أصبح كبيرا جدا".
يوفر الموقع الجديد بالقرب من محطة ووترلو على الضفة الجنوبية لنهر التايمز مزيدا من خطوط النقل والمرافق المحلية الأفضل ومرونة أكبر.
نظرا لموقعها، استبعدت شركة كاريز تجديد مكتبها الحالي وقررت عدم بناء مكتب جديد لأن الأمر سيستغرق وقتا طويلا. لقد استقرت على خيار العمل المشترك في موقع مركزي من شأنه أن يساعد على جذب الأشخاص المناسبين، مع تحقيق الفاعلية من حيث التكلفة أيضا.
يمكن أن تستوعب المساحة الجديدة نحو 230 موظفا من موظفي شركة كيري البالغ عددهم 1,400 موظف، مع توافر 90 مكتبا إضافيا لمواقع أخرى في شركة وي وورك. وقالت الشركة "إن هذا يعني أن ثلث موظفيها يمكنهم العمل شخصيا في أي يوم". وتوجد ثماني قاعات اجتماعات ومساحات مشتركة أخرى بما في ذلك غرفة لليوجا والبيلاتس.
أفادت إيبي ويسكارفر، رئيسة التصميم والتطوير العالمي في شركة وي وورك، بأن الشركة قامت بتكييف تصاميمها لتلبية احتياجات الشركات الكبرى "نظرا لأن مزيدا من الشركات الكبيرة يتطلع إلى دمج مساحة مرنة في محفظته العقارية، فقد تم تصميم مساحاتنا بمرونة طبيعية لتشكيل التحول مع تطور الطلب".
وتعتقد كوجلان أن المكتب الجديد، وحقيقة إن الموظفين يمكنهم استخدام أماكن أخرى تابعة لشركة وي وورك بالقرب من منازلهم "جاذب للمواهب". وقالت "عروضنا التي تتمحور حول المرونة وهذه التسهيلات، تذهل المرشحين. لا نفرض على الأشخاص الوجود في المكتب في أيام محددة.. هذا عامل جذب كبير".
وتقوم شركات كبيرة أخرى مثل أمازون بنقل بعض موظفيها إلى أماكن عمل مشتركة. هذا يجلب مخاطر إضافية. وحذرت شركة "وي وورك" أخيرا، من وجود "شك كبير" حول مستقبلها، حيث ألحق فائض العرض في المباني التجارية والمنافسة الضرر بالشركة.

تحسين البنية التحتية القديمة

كانت ملكية شركة بي تي التي تضم 900 مبنى في 400 موقع في المملكة المتحدة في تراجع، حيث لم يعد كثير من المكاتب مقبولا. قالت سو جليو، التي تدير فريق بنز وركبليس التابع لشركة بي تي "كانت لدينا منصة تنهار".
وأشارت إلى أن الشركة تريد أن توفر للموظفين مكانا رائعا للعمل إلى جانب ترسيخ ممتلكاتها في المملكة المتحدة.
وقامت شركة بي تي باستثمار ملايين الجنيهات الاسترلينية في مبنى جديد مساحته 325 ألف قدم مربعة في ألدجيت، على الطرف الشرقي من حي المال. ويمكن أن يستوعب ما يصل إلى 3,500 موظف، وتم افتتاحه في أواخر عام 2021.
يتمتع المبنى بتكنولوجيا عالية الجودة، مع إعطاء الأولوية لشبكة واي فاي سلسة وغرف يسهل فيها عقد الاجتماعات المختلطة. قالت جليو "لقد وفرنا آلاف الساعات من الوقت الضائع على شركة بي تي".
تؤكد خطوة شركة بي تي أن الموقع وحده لا يكفي لإعادة الموظفين إلى المكتب.
وقال ديفاين "إن بعض المباني قد تكون لها عناوين رائعة، لكن عندما تقوم بتفكيك الهيكل العظمي لمبنى مكتبي وكيفية عمله، فإن كثيرا منها يحتاج إلى إعادة تحديد موقعه".
وبين تيم أولدمان، الرئيس التنفيذي لشركة ليسمان، التي تحلل تجارب الموظفين في أماكن عملهم، أن البيانات أظهرت أن "المنزل المتوسط يدعم عامل المعرفة المتوسط بشكل أفضل من المكتب المتوسط. لذا، فإن كلمة (المتوسط) ليست جيدة بما يكفي لجذب الموظفين مرة أخرى".
أدركت جلو ما كان يواجه المكتب، حيث قالت "إنك في منافسة مع التنقل، ونتيجة لذلك يتعين على أصحاب العمل توفير شيء يرغب الأشخاص في المجيء إليه لإخراج الأشخاص من غرفهم الاحتياطية وأحذيتهم المنزلية، يجب أن يكون المكتب وجهة ويجب أن يتطور ليصبح شاملا حقا".
وأشارت جلو إلى أنه تم إنجاز كثير من العمل مع اللجنة التنفيذية لشركة بي تي بشأن ما تريد الشركة إنشاءه. متسائلة "كيف يمكننا أن نعكس العلامة التجارية وقيمها عبر المكتب؟".
وأوضحت أنه ينبغي أن يبدو كأنك في بيتك، ويجب أن يوفر الخدمات للأشخاص ذوي الاحتياجات المتنوعة، مثل المتنوعين عصبيا وذوي الإعاقات الجسدية.
وكما هي الحال مع شركتي كاريز وسانتاندر، حاولت شركة بي تي جعل مقرها الرئيس الجديد واسعا، مع مناطق "للاسترخاء وتجديد الطاقة" ومساحات هادئة للعمل المركز. والطابق العلوي، الذي يتمتع بإطلالات واسعة على حي المال، مخصص للاستخدام المرن، وليس للمديرين التنفيذيين. وتمتلك الشركة مواقع جديدة في برمنجهام، وبريستول ومانشستر، كما جددت مبانيها في جلاسكو وبلفاست.

الأكثر قراءة