من مبادئ العلاقات الاجتماعية

مع توافر التقنية في أيدي الكثير، ومع تطبيقاتها المتعددة أصبح من المتيسر الفضفضة بكثير من الأمور عامها وخاصها، وما يقال على العموم، وما يقال إلا للخاصة والمقربين جدا، حتى تحولت هذه التطبيقات إلى ساحات ومنصات فضائحية يعتقد البعض، وهم ليسوا قلة، أنها مجال تنفيس وتفريغ للمشاعر المدفونة في أعماق الشعور واللاشعور.
استوقفتني بعض المقاطع مع شعور بالألم من جرأة أصحابها، وعدم حيائهم مما يعرضون، وهو خادش للحياء ومسيء للأخلاق ومحرج للأسرة، والقبيلة، وكافة الأقارب والمعارف، فالعلاقات بين أفراد الأسرة، وما يحدث من مشكلات بين الأب وابنه أو الزوج والزوجة وغيرهم أصبحت مستباحة مهدرة، ومجالا للفرجة، والتندر من قبل كل من تصل إليه هذه المقاطع، ليس هذا فحسب، بل إن أصحابها يعرضونها، وهم فرحون، بل في قمة النشوة والسرور مع أن محتواها يخجل منه الحجر لو قدر له ونطق.
سهولة الوصول إلى الجمهور المتحققة مع التقنية الحديثة وتطبيقاتها كجمهور في مسرح يشاهد مسرحية لتكون ردود الفعل متباينة بين معجب مبسوط، يكاد يستلقي من شدة الضحك، وآخر يتمزق قلبه من الحزن على المشهد المخزي المعبر عن جهالة أصحاب المقاطع، والتحول الشنيع الذي حدث لهم، وكأنهم لم يولدوا ويتربوا في بيوت ومجتمع له قيم وثوابت.
بعض المشاهد تروي التغير في مفهوم الصداقة، إذ لم تعد كما كانت من قبل قائمة على المحبة والتكاتف، والفزعة بين الأصدقاء في السراء والضراء، حتى أصبحت الصداقة عند البعض مبنية على المصلحة والمكاسب الشخصية، حيث تعرض المقاطع أغنياء سابقين كانوا عند الناس محل إجلال واحترام، يتصدرون المجالس، وبتغير وضعهم الاقتصادي، وتحولهم من حال الغنى إلى الفقر انفض الجميع عنهم، وتنكروا لهم، وكأنهم لا يعرفونهم رغم سابق وقوفهم ودعمهم لهم وقت غناهم.
الأمر ينطبق على مسؤولين سابقين، حيث كانت الحاشية تحيط بهم من كل جهة، وتطلق عليهم الألقاب المعروفة، وغير المعروفة، لكن ما أن يتم تركهم المنصب إلا وتختفي الحاشية، وكأنهم طيور على شجرة، طارت وتفرقت وقت دخول الليل. هذه الصور من التصرفات تحدث في كثير من المجتمعات، إلا أن درجة النفاق وقت الثراء أو المنصب تختلف باختلاف ثقافة المجتمع، وسيادة القانون وسطوته، الذي يحد من هذه الممارسات.
في طريقه بين أفغانستان إلى الحج توقف الإمام حاتم الأصم في بغداد، والتقى الإمام أحمد بن حنبل، فسأله الإمام أحمد عن السبيل إلى السلامة من الناس، أي من المشكلات المترتبة على التعاطي والعمل معهم كجزء من الحياة الطبيعية بين الناس، فأجابه الإمام حاتم، بقوله: تعطيهم ولا تأخذ منهم، ويؤذونك ولا تؤذيهم، وتقضي مصالحهم ولا تكلفهم بقضاء مصالحك، فقال الإمام أحمد: إنها لشديدة يا حاتم، فرد عليه حاتم: وليتك تسلم.
قواعد التعامل الاجتماعي التي ذكرها الإمام حاتم ما من شك في قيمتها وجدواها في الاحتفاظ بعلاقات سوية بعيدة عن الخلافات والشحناء، إلا أنها كبيرة إلا على العظماء الذين يؤثرون على أنفسهم ويتحملون خطأ الغير، ويسامحون ويصبرون، ويبحثون عن مبررات لزلات الآخرين، وهذه من شيم الكبار المتجاوزين مهما كبرت الأخطاء بحقهم.
إن موروثنا مليء بالدرر والحكم، والقواعد الناظمة للسلوك لو تربت الأجيال عليها لتجاوزنا المشكلات الحادثة بين الناس، أو على أقل تقدير التقليل منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي