قراءة في تنظيم صناعة الفضاء «2 من 2»
منذ بداية القرن الحالي، خضعت صناعة الفضاء لعدد من التغييرات الجذرية، كان أكثرها وضوحا هو ظهور شركات الفضاء الخاصة التي تتمتع بالقدرات نفسها التي تتمتع بها وكالات الفضاء الحكومية، رغم أن معاهدة الفضاء الدولية 1967 لم تتطرق إلى هذه النقطة. ويعود السبب إلى ازدهار التقنية في القرن الحالي، وانخفاض التكاليف الاقتصادية نسبيا مقارنة بما حصل خلال معاهدة 1967. لقد كانت شركات الفضاء الخاصة موجودة في الخيال العلمي فقط، كما أن قضايا التعدين الفضائي، والانتماء الإقليمي للمستوطنات على الأجرام السماوية الأخرى غير واضحة تماما آنذاك. لقد أظهرت صناعة الفضاء عديدا من الإنجازات المذهلة والرائدة في الآونة الأخيرة في المجالات التقنية، وصولا إلى خفض التكاليف نسبيا عما كانت عليه من قبل، ولكن مع هذا تكمن تحديات في ظل هذه النجاحات قد تدفع البشرية إلى الوراء أو حتى حرمانها من الوصول إلى الفضاء لأعوام عديدة، ولذلك يعلق تنظيم صناعة الفضاء على عدة تحديات كبيرة.
من أهم التحديات هو الحطام الفضائي، فإن هناك أكثر من 20 ألف جسم كبير من صنع الإنسان يدور حول الأرض، وخمسة آلاف منها لا تزال تعمل حاليا، بينما الباقي عبارة عن حطام فضائي، مثل أقمار اصطناعية معطلة وأجهزة مستهلكة ومعززات وحطام من المركبات التي انفجرت، أو تحطمت بسبب اختبارات الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية، وصولا إلى الأدوات التي فقدها رواد الفضاء. ومن أهم التحديات والصعوبات التي ربما تواجه صناعة الفضاء يكمن في النشاط الشمسي، حيث تدخل الشمس دورة جديدة من النشاط مصحوبة بزيادة في عدد التوهجات. ورغم أن معظم النشاط الشمسي لا يشكل خطرا مباشرا على الأقمار الاصطناعية القريبة من الأرض التي يغطيها المجال المغناطيسي لكوكبنا بشكل موثوق، إلا أنه يمكن للشمس أن تؤثر في الأقمار الاصطناعية بصورة أو بأخرى. ففي فبراير 2022، دمرت عاصفة شمسية مجموعة من أقمار Starlink على الفور بعد إطلاقها. وتعد الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية من التحديات، حيث يسبب اختبار تلك الأسلحة أجزاء كبيرة متناثرة من الحطام الفضائي. لقد أجرت روسيا آخر اختبار من هذا القبيل في نوفمبر 2021، وولدت هذه العملية كثيرا من الحطام الذي يشكل تهديدا لمحطات الفضاء الدولية ولغيرها من المركبات الفضائية. بل قد نرى مواجهات فضائية بين الدول، لأن الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية ليست سوى جزء من معضلة كبرى يمكن وصفها بأنها مواجهة فضائية جديدة. وقد يقول قائل إن بالإمكان تقليصها حصريا على الولايات المتحدة والصين وروسيا، بيد أن هذا ليس دقيقا على أي حال، نظرا إلى أن الوصول إلى الفضاء أصبح أكثر سهولة عن ذي قبل حيث بدأ عديد من الدول بتنفيذ مشاريعها الفضائية التي قد يستهدف بعضها بشكل مباشر دولا أخرى.
أما أهم التحديات فهي التشريعات والقوانين التي عفا عليها الزمن، إذ منذ عقد معاهدة الفضاء الدولية 1967، لم نر قانونا أو معاهدة دولية جديدة في صناعة الفضاء على الرغم من بعض المحاولات الدولية لتسوية قضايا التعدين الفضائي والاستيطان الفضائي على الأجرام السماوية الأخرى في الأعوام الأخيرة. ولقد شرعت الولايات المتحدة قانونا لشركاتها يتيح لهم استخراج المعادن في الفضاء، وتوجد مبادرة قانونية أمريكية تدعى اتفاقية أرتميس أرست مبادئ التعاون والنشاط المدني في استكشاف واستخدام القمر وكوكب المريخ والأجرام السماوية الأخرى. وتمت الموافقة عليها من قبل أكثر من 20 دولة، لكن من غير المرجح أن ترغب الصين أو الهند، فضلا عن روسيا، في الانضمام إلى تلك المبادرة. إن هذه التحديات ستجابه منظم صناعة الفضاء، بحيث ينخرط في نقاشات جادة مع غيره محليا، إضافة إلى دول العالم الرائدة في صناعة الفضاء لعمل تحالفات بينية مشتركة. ومن التحديات التي يمكن أن تبرز على السطح تشجيع الاستثمار وإعطاء الرخص للشركات الراغبة ومراقبة السوق محليا وتخفيف التهديدات والتحديات ودفع سوق الفضاء إلى الاتجاه الصحيح. ومن المحتمل بصورة كبيرة أن تتقاطع صناعة الفضاء مع صناعات أخرى مثل الطاقة والاتصالات وتقنية المعلومات والصناعات الدفاعية والطيران والسياحة والنقل والروبوتات والتعدين والتصنيع والمياه والبيئة والزراعة والتعليم والخدمات اللوجستية، والذكاء الاصطناعي وخدمات الأقمار الاصطناعية والبحث والتطوير وغيرها. إن مجموعة هذه التقاطعات ليست إلا مع صناعات محلية، لكن التقاطع الدولي سيكون أعقد مع دول أخرى تتسابق في صناعة الفضاء، وتتسارع في الاستحواذ عليه. وبالتالي تمثل إدارة هذه التقاطعات الكثيرة تحديات جمة لتنظيم صناعة الفضاء من أجل ضمان الاستدامة. ولا ننسى بناء القدرات المحلية وإنشاء البرامج الأكاديمية التي تمثل جزءا من خطة عمل كبيرة من أجل بناء جيل قادر على العمل في صناعة مستدامة وموثوقة للفضاء.
على الصعيد المحلي، أنشئت وكالة الفضاء السعودية واعتمد تنظيم الوكالة بقرار من مجلس الوزراء من أجل التركيز على الصناعة والابتكار في صناعة الفضاء، ولتكون خطوة نحو مستقبل أكثر ابتكارا وأبعد تطلعا لأحدث التقنيات المستجدة والفرص المواتية في صناعة الفضاء. وتركز استراتيجية وكالة الفضاء السعودية بصورة عامة على علوم الفضاء والبعثات الاستكشافية وإيجاد فرص جديدة في صناعة الفضاء وتمكين الكوادر الوطنية من الابتكار والإبداع. ومن ضمن الخطوات الجادة التي تم اتخاذها لتمكين صناعة الفضاء السعودية هو تعديل مسمى هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، لتكون هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية. وعلى الرغم مما ذكر آنفا، نحتاج إلى إنشاء شركات سعودية تعمل في التقنيات الفضائية، وإعفاء الرسوم الجمركية، أو تخفيض الضرائب عليها، وكذلك التعاون مع الشركات العالمية التي تعمل في صناعة الفضاء، وأخيرا مقترح إلى صندوق الاستثمارات العامة في "مسك" زمام الأمر، وإنشاء شركة سعودية في صناعة الفضاء.