الشطرنج .. نكهة السياسة حاضرة في لعبة الملوك

الشطرنج .. نكهة السياسة حاضرة في لعبة الملوك
الشطرنج .. نكهة السياسة حاضرة في لعبة الملوك

احتفى العالم في 20 تموز (يوليو) الجاري باليوم العالمي للعبة الشطرنج، الذي يصادف تاريخ إنشاء الاتحاد الدولي للشطرنج FIDE في باريس 1924. بدأ عشاق اللعبة الاحتفال بهذا اليوم في جميع أنحاء العالم في 1966، لكن الاعتراف به من جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة جاء متأخرا، فاعتماده ضمن قائمة الأيام العالمية جاء قبل خمسة أعوام فقط، وبالتحديد في 2019، وذلك إبرازا لدور اللعبة في تعزيز قيم التعاون والتسامح والحوار وثقافة السلام بين الشعوب.
تعد الشطرنج إحدى أفضل الألعاب الفكرية والثقافية، لاعتمادها بالأساس على مهارات الذكاء وسرعة البديهة، فهي تمزج بين الرياضة والتفكير وعناصر فنية أخرى. فضلا عن ميزة سهولة ممارستها، لكونها نشاطا بلا تكلفة، ويمكن مزاولتها من قبل الجميع وفي أي مكان، دون اعتبار لأي حاجز اجتماعي مثل اللغة والعمر والنوع الاجتماعي والقدرة البدنية وحتى الوضع الاجتماعي.
تتكون رقعة اللعبة من 64 مربعا، تتوزع عليها 32 قطعة "16 بيضاء/ 16 سوداء" موزعة بين الملك والوزير والقلعتين والفيلين والحصانين وثمانية جنود، يتصارع فيها لاعبان اثنان فقط، يحرك كل واحد منهما أنواعا مختلفة من القطع بتقنية معينة، بحيث تستهدف كل قطعة من قطع اللاعب الإمساك بالقطعة الرئيسة للخصم "الملك"، وهكذا يتبادل الطرفان الأدوار، وفق مجموعة محددة من الحركات المحتملة، حتى يموت أحد الملكين لتنتهي اللعبة حينها.

الشطرنج .. تاريخ وروايات
تعددت الروايات حول أصول اللعبة، فشاعت أكثر من سردية حول الجذور التاريخية للشطرنج، فواحدة تعيدها إلى زمن الفراعنة في مصر، وذلك بعد العثور على رقعة "شطرنج" مع قطعها في مقبرة توت عنخ أمون، وانتشرت بقوة في البلاد خلال حكم الملك رمسيس الثاني. وتربطها أخرى بالصين، خلال حكم القائد هان شين (231 ق.م – 196 ق.م) أحد أفراد سلالة هان الإمبراطورية التي شهدت الصين خلال حكمها (202 ق.م – 221 م) تقدما وازدهارا في مختلف مناحي الحياة. وكانت اللعبة من ضمن اختراعات هان من أجل تمثيل خطة لإحدى المعارك المهمة في التاريخ الصيني، دون ذكر أي تفاصيل عن تاريخ المعركة أو الخصم فيها.
علاقة بالحكم والسياسة، تفيد رواية أن ابتكار لعبة الشطرنج كان ضد اختراع لعبة النرد القائمة على الحظ، حيث طلب ملك من وزيره بديلا عن لعبة من كان قبله على العرش. فالملك الجديد يبحث عن لعبة تتيح للفرد حرية الاختيار في اتخاذ قراراته وتحمل مسؤولية عواقبه، وذلك قصد تعليم شعبه تحمل المسؤولية عن القرارات. فما كان من الوزير إلا أن أوجد لعبة الشطرنج، بقوانينها وترتيباتها واحتمالاتها المرتبطة أساسا باختيارات اللاعب.
وتبقى الأصول الهندية للعبة الأكثر رجحانا، أخذا في الحسبان كلمة "شطرنجا" الهندية، وهي تجميع لمقطعين هما: "شطرا" ومعناه أربعة، و"أنجا" التي تفيد جزءا من الجيش، وبذلك يكون معنى الكلمة "أجزاء الجيش الأربعة". وفي التراث الشعبي الهندي حكاية تؤرخ للعبة بالقرن السادس الميلادي خلال فترة إمبراطورية جوبتا، التي شهدت صراع أخوين على العرش، انتهى باستسلام أحدهما بعد خسارة جنده فمات حزنا وكمدا، ما أوجع كثيرا الأم "الملكة"، فهي أم القتيل والقاتل، فما كان من هذا الأخير سوى اختراع الشطرنج ليوضح لأمه أنه لم يقتل أخاه، بل مات حتف أنفه بعد خسارته جنده، أي نهاية المعركة بانتصار الملك الذي يملك الجنود، حينها فقط أدركت الأم أن الابن لم يقتل أخاه.
يرجح البريطاني هارود موراي، مؤرخ الشطرنج الشهير أن يكون التجار المسلمون وراء رحلة الشطرنج من الهند نحو بلاد فارس، حيث تطورت وتقننت اللعبة أكثر، ثم انتشرت في شبه الجزيرة العربية، ومنها استمرت الرحلة نحو بلاد الأندلس خلال القرن الثامن الميلادي، حيث تسلل إلى مناطق عدة في أوروبا كإيطاليا وإنجلترا وهولندا وأيرلندا وهكذا حتى وصلت روسيا في القرن التاسع الميلادي. وأسهم تبادل الحكام قطع الشطرنج هدايا فيما بينهم في ذيوع صيت اللعبة التي توصف بـ"لعبة الملوك".
كانت بصمة العرب حاضرة وبقوة في هذه اللعبة، بالمساهمة في نشرها من جهة، فضلا عن العمل على تطويرها بإتقانهم إياه، فقد قيل إن عبقرية خالد بن الوليد في التخطيط العسكري وقيادة الجيوش، مردها إلى عنايته الشديدة واهتمامه بلعبة الشطرنج. من جهة أخرى، وضعوا مصنفات عنها، فكتب أبو زيد البلخي الملقب بالجاحظ الثاني، كتاب "الشطرنج"، وقبله ألف أحمد بن الطيب السرخسي مؤلف "في الشطرنج العالية"، ووضع آخر "في الشطرنج ومنصوباته وملحه".

الشطرنج.. لعب بطعم السياسة
مهما يكن الأمر بشأن أصل اللعبة، يبقى الثابت أن جذورها عسكرية، ما دفع كثيرا من الحكام ورجال السياسة إلى السعي لإتقانها، بعدما بات مساعي حظرها في فرنسا، من قبل الملك لويس التاسع بالفشل، حيث ازدادت قوة وشعبية في أوساط العامة والنخبة على حد سواء. فكانت اللعبة المفضلة لدى عدد من الحكام في أوروبا "فليب الثاني، ألفونسو العاشر، إيفان الرابع...". واستمرت في الحفاظ على شعبيتها حتى في أصعب الأوقات، فقد شاع بأن نابليون بونابرت برع في لعبها وهو في المنفى.
يعد إتقان اللعبة دلالة على حذاقة ونباهة الحاكم، فالشطرنج لعبة فكرية واستراتيجية مذهلة، فرغم بساطة رقعتها، إلا أنها تتطلب قدرا هائلا من الذكاء والفطنة للتفوق فيها. فبعد الحركة الأولى، والتي تكون من نصيب اللاعب باللون الأبيض، ينقلب المربع فوضى عارمة، فأمام كل لاعب 400 احتمال لترتيب القطع، ويرتفع الرقم بعد الحركة الثانية إلى 197742 احتمالا لكل منهما، ويصبح العدد بعد النقلة الثالثة تسعة ملايين احتمال.
يثبت ذلك، وخلافا لما يشاع من اقتران اللعبة بالحظ، أنها وثيقة الصلة بحركات مبنية على التفكير والتخطيط الدقيقين في ذهن اللاعب، من أجل بلوغ الهدف بأقصر وقت وأقل عدد ممكن من الحركات، فحتى أكثر اللاعبين خبرة ومهارة لا يستطيعون توقع جميع الحركات الممكنة من جانب الخصم على الرقعة. تعقيد وصفه بدقة البريطاني جيرالد أبراهامز، أحد عباقرة اللعبة، حين قال: "لاعب التكتيك يعرف ما يفعله عندما يكون هناك ما يمكن فعله، أما لاعب الاستراتيجية فيعرف ما يفعله عندما لا يكون هناك ما يمكن فعله".
دلالة على مركزية الشطرنج في السياسة يكفي التذكير بحضورها القوي في الصراع زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وبسط السوفيات سيطرتهم على اللعبة حتى 1972 حين فاز الأمريكي بوبي فيشر على اللاعب السوفياتي بوري سباسكي الذي تفوق بدوره على سوفياتي آخر يدعى تيغران بيدروسيان، كان من عمالقة اللعبة عبر التاريخ. كانت الهيمنة الروسية على اللعبة واضحة طوال القرن الـ20، فعام 1985 كسب جاري كاسباروف بطولة العالم كأصغر بطل شطرنج في العالم عن عمر 22 عاما.
يقال إن اللعب قديم قدم البشرية، ورديف نشأة الحضارة الإنسانية، لكونها تتطلب الاجتماع الإنساني الذي لا يتحقق باجتماع الذين يستطيعون اللعب، ويفهمون كيف يكون اللعب. ولعبة الشطرنج مثال حي عن أن الإنسان لم يهتد إلى فكرة اللعب قصد اللهو والتسلية، بقدر ما كان لأهداف وغايات إنسانية أسمى من التسليع والتسطيح الذي تشهده معظم الرياضات.

سمات

الأكثر قراءة