العلاقات الاقتصادية بين فرنسا وألمانيا أمام اختبار .. هل يتوقف "محرك أوروبا"عن العمل؟

العلاقات الاقتصادية بين فرنسا وألمانيا أمام اختبار .. هل يتوقف "محرك أوروبا"عن العمل؟

كان التعاون الفرنسي الألماني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حجر الأساس الذي شيد عليه الاتحاد الأوروبي لاحقا. وفي الأغلب ما توصف العلاقات الفرنسية - الألمانية بأنها "محرك أوروبا".
تلك حقائق التاريخ والاقتصاد التي يصعب إنكارها أو تجاهلها. مع هذا فإن الخلاف الألماني الفرنسي في كثير من المناحي الاقتصادية حاد وآخذ في التزايد ولكن في صمت، فالصدام بين الجانبين بات أكثر وضوحا في مجالات مثل صناعة السيارات ذات محركات الاحتراق أو في قطاع الطاقة عموما ومحطات الطاقة النووية على وجه الخصوص.
ربما كانت أول ملامح الخلاف بين الجانبين التي ظهرت العام الماضي تتعلق بالعلاقة الاقتصادية مع الصين وتحديدا فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية في مجال البنية التحتية الأوروبية، فمازال الصينيون يتذكرون للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحه الشهيرة خلال لقاء له مع المستشار الألماني أولاف شولتز وقادة أوروبيين آخرين "لقد ارتكبنا أخطاء استراتيجية في الماضي ببيع البنى التحتية للصين".
المشكلة أن التصريح جاء في أعقاب موافقة الائتلاف الحاكم في ألمانيا بقيادة شولتز بالسماح لشركة الشحن الصينية العملاقة كوسكو شييبينج هولدنجز بالاستثمار في أكبر ميناء في ألمانيا في مدينة هامبورج الشمالية.
لكن الخلاف بين الطرفين يبدو من وجهة نظر البعض أعمق وأوسع نطاقا مما يبدو، والجبهة الموحدة التي يظهران بها حاليا مجبرين عليها نتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية الذي يتطلب منهم وحدة الصف.
تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة ديزي بنجامين من المعهد الأوروبي: "ظهرت الانقسامات الأكثر حدة عندما حاولت ألمانيا حماية اقتصادها من قرار روسيا قطع تدفق الغاز الطبيعي إلى أوروبا، فقد قدمت برلين 200 مليون يورو دعم إضافي ليتفادى المستهلكون الألمان والشركات الارتفاع الحادث في أسعار الطاقة، وهي خطوة عدتها فرنسا ودول أوروبية أخرى أنها تضع شركاتهم في وضع غير موات على صعيد المنافسة مع نظرائهم الألمان".
أما جاشوا فيكتور الباحث في مجال العلاقات الأوروبية فيشير إلى جانب آخر من الخلاف، حيث يقول لـ"الاقتصادية": إن "تحرك الاتحاد الأوروبي لحظر بيع السيارات والشاحنات الصغيرة الملوثة للبيئة بحلول عام 2035 من أجل معالجة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتصاعدة والمرتبطة بالنقل، أشعل الخلاف بين الطرفين بعد أن فرضت ألمانيا حظرا على قواعد الاتحاد الأوروبي للسيارات الصديقة للبيئة، وأيدها في ذلك مجموعة صغيرة من الدول الأوروبية بينهم إيطاليا".
ويضيف "فرنسا تعتمد على الطاقة النووية في توليد الطاقة، حيث استحوذت على نحو 70 في المائة من توليد الكهرباء محليا في عام 2021، لهذا تجاهلت باريس معارضة برلين واقنعت الاتحاد الأوروبي باعتبار الطاقة النووية مصدرا صديقا للبيئة، ما مكن فرنسا من التقدم بطلب للحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي لتطوير هذا القطاع، وهذا أمر يصعب للغاية بالنسبة لحكومة المستشار الألماني أولاف شولتز القبول به، لأنها تضم حزب الخضر المعارض للطاقة النووية".
من الواضح أن قطاع الطاقة يقع في قلب الخصوم الصامتة حاليا بين البلدين، وهو ما يتجلى في الإحباط الذي أصاب الجانب الألماني من معارضة فرنسا لمقترح ألماني - إسباني لبناء خط أنابيب غاز جديد عبر جبال بيرنيه ليحل محل الإمدادات الروسية، وقد أرجع الجانب الألماني الرفض الفرنسي إلى أن خط الأنابيب هذا لا يتناسب مع أجندتها الداعمة للتوسع في استخدام المحطات النووية لتوليد مزيد من الطاقة، بينما بررت باريس رفضها بأن المشروع مكلف للغاية وسيتطلب أعواما عديدة لإكماله، ما دفع برلين إلى التفكير في بناء خط أنابيب حول فرنسا يمتد من إسبانيا إلى بلجيكا عبر طريق بحري، كما يمكن ربطه ببريطانيا أيضا.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن جذور الخلاف الفرنسي الألماني بشأن الموقف من الطاقة النووية يعود في جوهره إلى سياق الجغرافيا السياسية في كلا الدولتين، فمناطق الشمال الغربي في ألمانيا تعتمد تاريخيا على الفحم في مجال توليد الطاقة، بينما تعتمد مناطق الجنوب الشرقي على الطاقة النووية، وهذا يوجد حالة من الانقسام في الموقف الألماني الداخلي بشأن أفضل السبل لتوفير احتياجات البلاد من الطاقة.
على العكس من ذلك تبدو فرنسا أكثر توحدا في موقفها بشأن الطاقة النووية، فقطاع الطاقة الفرنسي يتسم بالمركزية الشديدة، وقوانين التأميم الصادرة عام 1946، لا تمنح الإدارات المحلية أو الشركات سلطة اتخاذ القرار في مجال الطاقة إلا في ظروف استثنائية، ويترك هذا الملف في الأغلب للبيروقراطية الفرنسية التي تنظر إلى مصالح الدولة كوحدة واحدة وليس وفقا لتوازنات المناطق المختلفة.
الدكتور مارتن وايت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد يرى أنه تحت الصورة اللامعة للصداقة التاريخية بين فرنسا وألمانيا التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تكمن علاقة تقليدية للمنافسة والتنافس.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إن "هناك أسبابا قصيرة المدى تؤدي إلى الاحتقان الراهن بين الطرفين، من أبرزها الاحتقان الناجم عن عدم إحراز تقدم في التعاون الدفاعي، ومقاربات مختلفة تجاه الصين، وسباق إصلاح الاتحاد الأوروبي ومعدلات النمو والاستقرار، يضاف لذلك مصاعب داخلية فالمستشار الألماني يقود تحالفا هشا، والرئيس الفرنسي لديه برلمان منقسم".
ويضيف "لكن إذا نظرنا أعمق فسنجد جذور للخلافات الراهنة تكمن في النظرة الاقتصادية التي تنظر كل دولة فيهما إلى نفسها في عالم اليوم، سواء في أوروبا أو العالم. فرنسا ترى نفسها قوة متوسطة ذات نظرة عالمية. ألمانيا دائما تعد نفسها قوة قارية تجارية، حيث تركز على الولايات المتحدة والناتو لتوفير الأمن لها، وفرنسا تبحث عن مزيد من الاستقلالية لنفسها ولأوروبا في الشأن العالمي. ألمانيا تعطي الأولوية لمصالحها الاقتصادية والتجارية، أما النهج الفرنسي فيركز على الاعتبارات الأمنية والجيوسياسية".
في هذا الإطار تعد طبيعة العلاقات التي تربط فرنسا وألمانيا بشركائهما الأجانب مصدرا مهما لتعزيز وجهات نظرهما المتباينة حول السياسة والاقتصاد، فألمانيا تعتمد على التجارة الخارجية بدرجة كبيرة، إذ إن حجم مبيعاتها يساوي 89 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أمر فريد من نوعه مقارنة بالاقتصادات الكبرى، كما أن صافي مركز الاستثمار الدولي للعاصمة الألمانية برلين (مجموع الأصول الخارجية مطروح منها مجموع الالتزامات الأجنبية) يصل إلى فائض هائل يبلغ 75 في المائة. الأمر مختلف تماما لفرنسا إذ هي أقل اعتمادا على الأسواق الخارجية فنسبة التجارة الخارجية إلى ناتجها المحلي الإجمالي 62 في المائة، كما أن صافي مركز الاستثمار الدولي للعاصمة باريس سلبي يبلغ -27 في المائة.
ويعلق الخبير الاستثماري البريطاني سابستيان جورج قائلا "مصلحة ألمانيا تتحقق دائما عندما يغيب تسييس التجارة والاستثمار في الاقتصاد العالمي، ولذلك تتبنى الحكومة الألمانية موقفا براغماتيا في علاقاتها التجارية، وفرنسا تعد العولمة آلية ساعدت الولايات المتحدة والصين في تعزيز مميزاتهما الهيكلية، ومن ثم فرنسا تريد دائما أن يتحرك الاتحاد الأوروبي كطرف سياسي دولي، وهذا يعني في الاقتصاد مزيد من الحمائية، ودعم المنتجات الأوروبية، وتطوير صناعات عالية التقنية ومنتجات استراتيجية".
مع هذا يرى بعض الخبراء أن تراكم التوتر بين الجانبين في بعض القضايا الاقتصادية المهمة لن يحول دون مواصلة التنسيق بينهما في الوقت الراهن، فالمواءمة السياسية بين أهم عضوين في الاتحاد الأوروبي متأصلة خاصة في الجانب الاقتصادي، كما أن الظرف الحالي من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية يتطلب التكتم على الخلافات قدر الإمكان، ولكن عندما يتوقف أزيز الرصاص وطلقات المدافع فربما يكون لكل حادث حديث حينها.

الأكثر قراءة