اقتصاد آسيا الوسطى يصمد في وجه الرياح المعاكسة .. 6.2 % متوسط النمو خلال 20 عاما
تاريخيا، مر طريق الحرير عبر السهول الشاسعة في آسيا الوسطى، وبفضل القوافل التجارية تم ربط الشرق الأقصى في الأسواق الاستهلاكية المتنامية للقارة الأوروبية، وباتت مدن مثل سمرقند وبخارى مراكز حضارية وتجارية ذائعة الصيت.
اليوم عديد من الأسئلة تطرح بشأن قدرة بلدان وسط آسيا على الصمود أمام التغيرات الجارية في الاقتصاد العالمي، ففي الأعوام الثلاثة الماضية شهد الاقتصاد الدولي مجموعة من الصدمات الكبيرة، من بينها جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، والتوترات الجيو- سياسية بين الولايات المتحدة وأوروبا من جانب والصين من جانب آخر، وبروز تكتلات إقليمية ودولية عززت من مناخ الاستقطاب العالمي.
تلك السيولة في المشهد الدولي بشقيه السياسي والاقتصادي، أحدثت جميعها حالة من عدم الاستقرار ألقت بثقلها على عديد من الاقتصادات الكبرى فضلا عن الاقتصادات الناشئة والنامية ومن بينها اقتصادات بلدان وسط آسيا.
حتى الآن أثبتت بلدان وسط آسيا قدرة اقتصادية جيدة في مواجهة أعاصير الاقتصاد العالمي، ساعدها في ذلك ما تتمتع به من إمكانات نمو واسعة النطاق، فالناتج المحلي الإجمالي لبلدانها الخمسة (أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان) تبلغ 347 مليار دولار، وعلى مدار العقدين الماضيين نما الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من سبعة أضعاف، وزاد عدد السكان البالغ 77 مليون نسمة بمعدل 1.4 مرة منذ عن 2000، ومن المؤكد أن الزيادة السكانية توجد سوقا استهلاكيا أوسع نطاقا، وتوفر قوة عمل أكبر.
وتشير التقديرات الدولية إلى أن متوسط معدل النمو الاقتصادي السنوي لبلدان آسيا الوسطى بلغ 6.2 في المائة خلال الـ20 عاما الماضية، مقارنة بمعدل نمو البلدان النامية البالغ 5.3 في المائة ومتوسط النمو الاقتصادي العالمي 2.6 في المائة سنويا.
وقد أسهمت عائدات الصادرات وتحويلات العمال المهاجرين والاستثمار الأجنبي المباشر في ارتفاع الدخل والحد من الفقر في معظم مجتمعات البلدان الخمسة.
ولكن إذا كان الأداء الاقتصادي في آسيا الوسطى إيجابيا خلال الـ20 عاما الماضية فهل سيواصل مسيرته للأمام في ظل الظروف الدولية الراهنة؟
يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور جان جيرالد أستاذ الاقتصاد الآسيوي السابق في جامعة بريستول "اقتصادات آسيا الوسطى أثبتت قدرة على الصمود في وجه الرياح الجيوسياسية المعاكسة خاصة المرتبطة بالحرب الروسية - الأوكرانية، فعلى الرغم من حقيقة أن روسيا وأوكرانيا يمثلان أقل من 3 في المائة من الصادرات العالمية، إلا أن الصراع العسكري والعقوبات أعاقا طرق التجارة العادية، وبفضل موقعها الجغرافي تمكنت بلدان وسط آسيا من أن تمثل طرق تجارة بديلة وغير تقليدية لروسيا، وعززت البلدان الخمسة تعاونها التجاري مع موسكو، حيث عملت كوسطاء للسلع والبضائع الروسية".
ويضيف "والأهم من ذلك أن منتجات وسط آسيا وجدت لها مكانة تفضيلية في الأسواق الروسية نتيجة الفراغ الناجم عن انسحاب عديد من الشركات الأمريكية والأوروبية من السوق الروسية، ولهذا زاد حجم التحويلات المالية إلى آسيا الوسطى من الخارج بشكل كبير، ما عزز الودائع المصرفية والأرباح، كما أن تدفق الروس على بلدان المنطقة أنعش كثيرا قطاعات السياحة والخدمات والعقارات والبيع بالتجزئة".
خلاصة القول لدى البروفيسور جان جيرالد يختصرها المثل العربي "مصائب قوم عند قوم فوائد" فقد استفادت اقتصادات آسيا الوسطى بشكل أو بآخر من الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن هل يعني ذلك أن اقتصاداتها باتت الآن محصنة من أي اهتزازات مستقبلية؟
بالنسبة للدكتورة لورين جورج أستاذة النظم الاقتصادية في جامعة كامبريدج فإنها ترى أن تلك البلدان أحرزت بعض التقدم، لكن هناك عديدا من المشكلات التي تعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها، حيث تلعب صادرات السلع وتحويلات العمال المهاجرين دورا رئيسا في الاقتصاد، بينما تغيب البيئة المؤسسية وتوجد اختناقات في شبكات النقل الإقليمية، إضافة لعدم كفاية التنسيق في العلاقات التجارية والاقتصادية الإقليمية، وفي هذا السياق تشير إلى أن دول المنطقة في حاجة إلى التغلب على مجموعة من التحديات الهيكلية الرئيسة.
وتؤكد لـ"الاقتصادية"، وجود مشكلات جغرافية تحد من آفاق النمو مثل الافتقار الجغرافي في الوصول إلى البحر، وانخفاض مستوى تنمية القطاع المالي، والضغط الشديد على مصادر الطاقة المحلية خلال فترة النمو الاقتصادي.
وتعتقد الدكتورة لورين جورج أن التعاون الإقليمي في مجموعة من القضايا الحيوية قد يصنع فارقا حقيقيا في مستقبل التنمية في بلدان آسيا الوسطى.
وتضيف "حقيقة أن البلدان تشترك في أحواض الأنهار لا يترك لها خيار آخر سوى التعاون في المياه والطاقة، لكن هذا لا يقل أهمية عن تنسيق الجهود لتطوير البنية التحتية للنقل لتعزيز الإنتاجية الاقتصادية والشراكات التجارية والاقتصادية مع البلدان المجاورة ويشجع على تنويع الإنتاج والصادرات".
وفي الواقع فقد أخذت بلدان آسيا الوسطى خطوات ملموسة لحل جزء من التحديات الهيكلية التي تواجهها، فقد أطلقت إلى جانب أذربيجان طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين، وهو بديل أسرع وأكثر كفاءة من الطرق البحرية التقليدية، وفي الوقت نفسه هناك برنامج للتعاون الاقتصادي الإقليمي يضم 11 دولة من بينها دول آسيا الوسطى لتعزيز الترابط الإقليمي مع التركيز على القطاعات ذات الأولوية مثل النقل والطاقة وتيسير التجارة وتنسيق السياسة التجارية، كما يتم تشييد خطوط سكك حديدية رئيسة جديدة لربط آسيا الوسطى بالموانئ الصينية.
لا شك أن الاستثمار في البنية التحتية للنقل عامل ضروري لتحقيق تكامل إقليمي أكبر عن طريق إنشاء طرق سريعة وخطوط سكك حديدية ومراكز لوجستية، لهذا السبب تحديدا تسعى كازاخستان إلى أن تصبح مركزا لوجستيا رئيسا ومحور عبور يمكن أن يوفر لبلدان آسيا الوسطى إمكانية الوصول إلى الأسواق العالمية.
مع هذا يرى بعض الخبراء أن تطوير قطاع النقل في الإقليم لا يمكن أن يعود بمردود حقيقي دون تحسين بيئة الأعمال، وهنا يكمن من وجهة نظرهم التحدي الحقيقي الذي يواجه بلدان المنطقة ويطرح تساؤلات حول جاذبيتها الاقتصادية مستقبلا.
أشارت تقارير دولية إلى أن 16 في المائة من المستثمرين الدوليين ألغوا خططهم الاستثمارية في المنطقة بشكل كامل أو توقعوا انخفاضا في الاستثمار بسبب العقبات الناجمة عن الصراع الروسي الأوكراني، بينما أعرب 8 في المائة من المستثمرين عن قناعتهم بأن الجاذبية الاقتصادية للمنطقة ستتراجع في الأعوام الثلاثة المقبلة، فالأطر التنظيمية والقانونية تتسم بكثير من السيولة وعدم الانضباط، والإجراءات الجمركية وحماية حقوق الملكية الفكرية يشوبها كثير من الخلل، وتعزيز التجارة البينية لا يزال محل شك، رغم الإجراءات التي اتخذت في الأعوام الأخيرة خاصة خلال فترة جائحة كورونا لتعزيز التواصل الرقمي لتسهيل التجارة الإلكترونية، فإن الطريق لا يزال طويل أمام بلدان المنطقة للاندماج بشكل حقيقي في المنظومة العالمية.
يعلق لـ"الاقتصادية" الخبير الاستثماري باتريك بولي قائلا "بلغ إجمالي رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى البلدان الخمسة في آسيا الوسطى خلال الـ20 عاما الماضية نحو 211 مليار دولار، زاد هذا الرقم بأكثر من 17 ضعفا خلال عقدين من الزمان، وفي حين أن الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة آخذ في النمو، فإن هيكله يشهد انحيازات قطاعية تعمق التشوهات الاقتصادية الموجودة، وباستثناء الاستثمار في قطاعات السلع الأساسية، فإن أغلب الاستثمارات في القطاعات الأخرى أقل من المتوسط العالمي، ما يعني أن المنطقة تعاني نقصا في الاستثمار".
ويشير باتريك بولي إلى أن سوق السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية ستكون من القطاعات التي يتوقع أن تكون شديدة الجاذبية للاستثمارات الدولية في الأعوام المقبلة، خاصة مع توقع أن ينمو القطاع بشكل مساو لنمو قطاع الطاقة.
ولربما يعود النمو المتوقع في قطاع السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية في جزء منه إلى الزيادة السكانية الملحوظة في الإقليم، إذ يولد ما يقرب من مليوني شخص في آسيا الوسطى سنويا، ويعد سكان المنطقة من بين الأصغر سنا في العالم، وتمثل فئة الشباب نحو 60 في المائة من السكان وهي نسبة أعلى بكثير من المتوسط العالمي.
وفقا للتقديرات الدولية ستنمو المنطقة هذا العام بنسبة 5.2 في المائة في المتوسط، ويرجع ذلك إلى زيادة تحويلات العمالة نتيجة الطلب المستمر على العمالة من روسيا وقوة الروبل، وقد ساعد هذا الوضع على تحقيق نمو إيجابي في اقتصادات آسيا الوسطى خلال النصف الأول من العام الجاري، وذلك رغم أن معدلات التضخم في الإقليم لا تزال أعلى من النطاقات المستهدفة من قبل البنوك المركزية، لكن أسعار الفائدة الدولية المرتفعة والتضخم العالمي وارتفاع أسعار السلع الأساسية يمكن أن يؤثر في النمو الإقليمي طويل الأجل.