محافظو البنوك المركزية غير واثقين .. والتشديد مستمر

محافظو البنوك المركزية غير واثقين .. والتشديد مستمر

هناك مفهوم في العلوم الاجتماعية - بما فيها الاقتصاد - يجدر بصانعي السياسات ومستشاريهم أن يضعوه في اعتبارهم، تكافؤ الملاحظة. يحدث هذا عندما تتوافق عدة تفسيرات متنافسة لما يجري مع كل ما يمكننا ملاحظته. في مثل هذه الحالات، بناء السياسة على نظرية تناسب البيانات "حتى لا يعود الأمر كذلك فجأة" ينطوي على مخاطر حدوث بعض المفاجآت السيئة التي لا نكون مستعدين لها إذا لم نعط اعتبارا كافيا لاحتمال أن يكون أحد التفسيرات المنافسة هو التفسير الصحيح.
خطر هذا على بالي عندما كنت أتابع تراجع كبار مسؤولي البنوك المركزية لدى البنك المركزي في سينترا في البرتغال. حدث ذلك في وقت صعب للغاية بالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية، عندما كان التضخم الكلي ينخفض بسرعة كبيرة لكنه لا يزال مرتفعا جدا بدرجة لا تبعث على الراحة. كان عدم اليقين هو اسم اللعبة في سينترا - عدم اليقين بشأن السرعة التي سينخفض بها التضخم، ومدى التأثير الذي ما زال منتظرا في نشاط الاقتصاد من ارتفاع أسعار الفائدة الذي رأيناه بالفعل، ونتيجة لذلك، ما السياسة الصحيحة التي يجب اتباعها الآن.
ولكن رغم الاعتراف بحالات عدم اليقين العميقة هذه، إلا أن محافظي البنوك المركزية كانوا حريصين على إظهار اليقين بشأن سياستهم. كانت الرسالة العامة هي أن التضخم يثبت أنه مستمر، لذلك لا تتوقعوا أن تلين السياسة النقدية في أي وقت قريب - في الواقع، قد تضطر أسعار الفائدة للارتفاع والبقاء كذلك لفترة أطول مما يتوقعه الناس. مثلا، علق أندرو بايلي، محافظ بنك إنجلترا، قائلا، "لطالما كنت مهتما بأن تعتقد الأسواق أن الذروة لن تدوم طويلا في عالم حيث نتعامل مع تضخم أكثر ثباتا".
هناك معضلة هنا. كيف تجعل حالة عدم اليقين المتزايدة صانعي السياسات أكثر، وليس أقل، تصميما؟ قبل سينترا، حلل آدم توز كيف أن قبول الجهل النسبي يشكل المنطق الجديد لمكافحة التضخم بطرق غير بديهية. كان توز يرد بشكل مباشر على خطاب ألقته إيزابيل شنابل، وهي عضوة مؤثرة في المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في 19 حزيران (يونيو)، جادلت فيه بأنه "إذا كان استمرار التضخم غير مؤكد، فإن اعتبارات إدارة المخاطر تتحدث لمصلحة مواقف سياسة نقدية أكثر تشددا". إن الفكرة القائلة إن عدم اليقين الأكبر يبرر تشديد السياسة النقدية هي حجة طورتها شنابل لبعض الوقت، وهذا العمل الفكري هو تفسير جيد للموقف الذي تبناه معظم محافظي البنوك المركزية.
لا يثق محافظو البنوك المركزية الآن علانية بتوقعاتهم. تستند شنابل إلى بحث يظهر أن أخطاء التنبؤ مترابطة للإشارة إلى أنها وزملاءها من المرجح أن يقللوا من تقدير الضغوط التضخمية أكثر من المبالغة في تقديرهم لها، لأنهم سبق أن فعلوا ذلك العام الماضي. هذا أحد الأسباب التي تعطى لمضاعفة الجهود بشأن السياسة النقدية المتشددة. والسبب الآخر هو الاعتقاد بأنه من الأسهل تصحيح موقف يتبين أنه صارم بشكل مفرط بدلا من التراجع عن الضرر الناتج عن القيام بالقليل للغاية لدفع التضخم إلى الأسفل.
ولكن كما يجادل توز، ما إذا كان هذا هو الحال بالتأكيد يعتمد على ما ستكون عليه تكاليف التشديد المفرط. أود أن أضيف أن جدل "الصرامة" بأكمله يعتمد أيضا على ما هو بالضبط الواقع المضاد لاستمرار التضخم. إن أي تحليل "التكلفة النسبية لفهم التضخم بشكل خاطئ" يتوقف على ما يعنيه بالضبط "الفهم الخاطئ". لذلك يجب على مؤيدي التشديد النظر بجدية في تفسير التضخم الذي يقوض موقفهم بشكل كبير.
التفسير كالتالي: التضخم ينخفض من تلقاء نفسه في الوقت الحالي، ليس بسبب تشديد السياسة النقدية لكن لأن صدمات العرض التي دفعت الأسعار إلى الارتفاع في المقام الأول كانت تسير في الاتجاه المعاكس. وأيضا عبر عكس أي تدهور أصلي في شروط التبادل التجاري "العجز الخارجي الإضافي في الاقتصادات التي تعد مستوردا صافيا للطاقة"، فإن هذا يجعل من الممكن استعادة مستويات الأجور الحقيقية الأولية. في غضون ذلك، يؤثر تشديد السياسة النقدية في تأخر النشاط الاقتصادي الحقيقي ولم يؤثر بعد في تكوين الأسعار كثيرا. لذا فإن التشديد يأتي بعد فوات الأوان لفعل أي خير، وسيزيد فقط من عدم استقرار السعر "الهبوطي" بعد عودة التضخم إلى الهدف من تلقاء نفسه.
علق، في الوقت الحالي، حكمك على ما إذا كان هذا محتملا، وركز على حقيقة أنه ممكن. يتوافق سلوك الأسعار مع هذا التفسير. كانت آخر صدمة كبيرة في جانب العرض هي القفزة الكبيرة في أسعار الجملة العالمية "خاصة الأوروبية" للطاقة والسلع الغذائية من شباط (فبراير) إلى يونيو من العام الماضي. بلغ التضخم على أساس سنوي ذروته في يونيو في الولايات المتحدة، وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2022 في منطقة اليورو وفي المملكة المتحدة وفي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ككل - حيث شهد جميع أعضائها، باستثناء ثلاثة، انخفاض التضخم الشهر الماضي. لا تزال الأجور تلحق بالتضخم السابق بدلا من قيادته.
صحيح، بالطبع، أن التضخم "غير الأساسي" (الأسعار باستثناء الغذاء والطاقة) وتضخم الخدمات (الذي يتولد محليا بدرجة أكبر) ينخفضان بشكل أبطأ مما كانت البنوك المركزية تأمل فيه. إضافة إلى ذلك، فإن توقعات التضخم أعلى قليلا من ذي قبل: في منطقة اليورو، وجدت الاستطلاعات أن الناس في الوقت الحالي يتوقعون أن يبلغ معدل التضخم 2.5 في المائة بعد ثلاثة أعوام من الآن.
لكن هذا هو السبب في أهمية تكافؤ الملاحظة. هناك تحليل قوي يمكن أن يفسر جميع سلوكيات التضخم في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو تقريبا على أنها مجرد تداعيات مؤقتة من قطاع إلى آخر لما تبدو عليه سلسلة من صدمات العرض الكبيرة. تتناسب بيانات التوقعات، أيضا، مع إمكانية تشكيل توقعات الناس من خلال التضخم الذي يرونه حاليا، بحيث تستمر التوقعات في الانخفاض مع استمرار انخفاض التضخم الرئيس. في الولايات المتحدة، تقديرات توقعات التضخم التي أعقبت التضخم الحالي في طريقه للارتفاع تبعته بالتزامن نزولا من الذروة. مقياس توقعات التضخم للاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند هو الآن أقل من أو عند هدف 2 في المائة لجميع الآفاق الزمنية.
لذا فكرة أي شيء غير ذلك يمكن أن يكون صحيحا إذا كان هذا في الواقع هو التفسير الحقيقي للأحداث. إن أحد التلميحات للبنوك المركزية مهم بشكل خاص، أنه لم يكن هناك أي شيء يمكن أن تفعله السياسة النقدية لمنع انفجار التضخم في العامين الماضيين، وأن السياسة النقدية الحالية لا تسهم بأي شيء في تراجع التضخم. هذا لا يعني أن ارتفاع أسعار الفائدة ليس له أي تأثير، بل إن الآثار ستكون ضارة بشكل حصري، لأنها ستؤدي إلى كساد الاقتصاد - ما سيؤدي إلى قتل الدخل ونمو الوظائف - عندما يكون التضخم قد اختفى بالفعل. ببساطة، إذا كان هذا هو التفسير الصحيح للبيانات التي نراها، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن للبنوك المركزية فعله هو جعل الأمور أسوأ.
يمكننا أن نتوقع عدة ردود على هذا المنطق. أحدها هو أنه حتى لو لم يكن هناك شيء يمكن أن تفعله البنوك المركزية لخفض التضخم في الإطار الزمني المناسب، فلا يزال يتعين عليها التصرف كما لو كان بإمكانها أن تفعل شيئا من أجل منع التوقعات من الارتفاع. لكن الفرضية التي تجب معالجتها هي أنه لا يمكنهم حتى القيام بذلك "مرة أخرى، في الإطار الزمني المناسب، حيث ستكون له بعد ذلك نتائج عكسية". الرد الآخر هو أنه حتى لو لم تستطع البنوك المركزية فعل أي شيء حيال انفجار التضخم حتى ينتهي، فيمكنها خفض التضخم إلى ما دون الهدف لفترة من الوقت بعد ذلك - سيعزز توقعات التضخم المستهدفة إذا اعتقد الناس أي فترة تضخم مرتفع سيتبعها كساد، أو تضخم منخفض أو حتى انكماش تضخمي، بفضل البنوك المركزية. لكن هذا يعني أن البنوك المركزية ينبغي أن تزيد التقلبات في التضخم - على العكس تماما، ينبغي للمرء أن يفكر في السعي لتحقيق استقرار الأسعار.
بالتالي، فإن حالة "إنجاز المهمة" من حيث التشديد، يجب أن تصل إلى عدم احتمالية صحة هذا التفسير. لكن على ماذا يبني المرء هذا في حالة تكافؤ الملاحظة؟ ربما عبر البحث النشط عن البيانات القادرة على "كسر الصلة" بين التفسيرات الأخرى. "مثلا، قارن بين انتقال كل من الزيادات السعرية وانخفاض الأسعار من قطاع إلى آخر". من المفترض ألا يكون ذلك عبر اعتبار التفسير الذي يفيد بأن التشديد جاء متأخرا جدا لكنه ينجح الآن أمرا مسلما به، وأن السؤال هو ببساطة ما مقدار زيادة جرعة الدواء المناسب الذي يجب استخدامه.
قد يميل أحد صقور التضخم إلى المجادلة بأنه نظرا إلى أن الوظيفة الحصرية للبنك المركزي هي ضمان استقرار الأسعار، فكل هذا لا يهم: ينبغي أن يفعل كل ما في وسعه لخفض التضخم. لكن هذا خطأ في حالة البنوك المركزية التي لديها تفويضات مزدوجة أو مختلطة، بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي الذي يحتل التضخم فيه الأولوية المطلقة. لأنه إذا لم يكن للتشديد أي تأثير في الحلقة التضخمية الحالية على الإطلاق، فينبغي الحكم على السياسة بناء على كيفية مساعدتها - أو بالأحرى كيفية إلحاقها الضرر- بتفويضها الثانوي لدعم السياسات الاقتصادية الأخرى للاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، يتطلب استقرار الأسعار، بطبيعة الحال، تجنب النتائج دون المستوى المستهدف بقدر ما تتطلب النتائج الزائدة عن الهدف.
من الصعب على أي صانع سياسة قبول عدم وجود شيء يمكنك القيام به. لكن مبدأ "عدم إلحاق الضرر" مبدأ مفيد أيضا.

الأكثر قراءة