المستهلكون الأمريكيون يفقدون تفاؤلهم .. كيف؟

المستهلكون الأمريكيون يفقدون تفاؤلهم .. كيف؟

ما الذي يدور في أذهان المستهلكين الأمريكيين الآن؟ هذا سؤال يريد مستثمرون كثيرون سماع الإجابة عنه. في النهاية، لطالما كان هؤلاء المتسوقون الأمريكيون محركا مهما للاقتصاد العالمي، حيث يمثل الاستهلاك الخاص ثلثي الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا. لكن في الآونة الأخيرة، بدا سلوكهم غريبا جدا.
لأكثر من عام، رسمت استطلاعات الرأي باستمرار صورة تشاؤم شعبي عميق. تشير دراسة استقصائية أجرتها شركة ترانس يونيون على ثلاثة آلاف بالغ في الربع الثاني، مثلا، إلى أن 75 في المائة من المستهلكين يعتقدون أننا سنكون في حالة ركود قريبا – ويعتقد 44 في المائة أننا بالفعل في حالة ركود.
في الوقت نفسه، ارتفع استطلاع جامعة ميشيجان لثقة المستهلك إلى ما يزيد قليلا عن 60 في حزيران (يونيو) – أفضل من المستوى الكئيب للغاية البالغ 50 الذي شوهد قبل عام، لكنه أقل بكثير من المستويات التي كانت تحوم عند أقل من 100 بقليل لعدة أعوام قبل الجائحة.
لكن حتى وسط هذا الكآبة، يستمر الاقتصاد الأمريكي في النمو بوتيرة قوية (بعض الشيء)، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مبيعات التجزئة ظلت مرنة بشكل مدهش. كما تبدو الأسس الاقتصادية للأسر صحية بشكل مفاجئ في الإحصاءات الرسمية.
حلل الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو أخيرا تأثير تحفيز كوفيد - 19 الذي قدمته الحكومة الأمريكية بقيمة خمسة تريليونات دولار تقريبا، وخلص إلى أن الأسر الأمريكية كان لديها مدخرات فائضة تبلغ 2.1 تريليون دولار في 2021، بسبب هذا السخاء.
استنفد المستهلكون هذه المدخرات في وقت لاحق. لكن البحث يشير إلى أنه "لا يزال هناك مخزون كبير من إجمالي المدخرات الفائضة في الاقتصاد يبلغ نحو 500 مليار دولار(...) الأسر في المتوسط، بما في ذلك الموجودة في الطرف الأدنى من التوزيع، ما زالت تمتلك أموالا سائلة متاحة لهم أكبر بكثير مما كان في فترة ما قبل الجائحة". علاوة على ذلك، يتوقع البحث أن "هذه المدخرات الفائضة يمكن أن تستمر في دعم الإنفاق الاستهلاكي على الأقل في الربع الرابع من 2023".
في حين إذا نظرت إلى ما يسمى "مؤشر البؤس" – وهو مقياس يتتبع إجهاد المستهلك – فإن الصورة تبدو أكثر إشراقا من نسبة "83 في المائة في الأشهر منذ 1978"، وذلك وفقا لديفيد كيلي، الخبير الاستراتيجي في بنك جيه بي مورجان. ويرجع ذلك إلى أن أحد المكونات الرئيسة لهذا المؤشر هو التضخم، الذي يتراجع الآن بعد ارتفاعه العام الماضي، والآخر هو البطالة التي سجلت أدنى مستوى لها منذ 50 عاما.
الأكثر إثارة للدهشة هو أن مؤشر معنويات مركب آخر يتتبعه جيه بي مورجان، باستخدام "التضخم، والبطالة، وأسعار الأسهم، وأسعار البنزين، ومكاسب الوظائف في كشوف الرواتب"، يظهر أن "قراءة يونيو 2023 عند 64.4 هي أكبر قيمة شاذة على الإطلاق، أكثر من34 نقطة مؤشر أو 3.8 أخطاء قياسية أقل من قيمتها المتوقعة البالغة 98.6". بلغة بسيطة، يخبر المستهلكون منظمي استطلاعات الرأي أنهم متشائمون، ومع ذلك، تقول البيانات إنهم ليسوا كذلك.
لماذا؟ أحد التفسيرات المحتملة هو أن البيانات خاطئة أو، بشكل أكثر دقة، غير كاملة. من الممكن أن تكون الحسابات الإجمالية لفائض المدخرات في أبحاث الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو، مثلا، قد فشلت في تصور الألم الذي تشعر به الآن بعض المجموعات الاجتماعية والاقتصادية، أو أنها ببساطة أصبحت قديمة. في الواقع، تشير الأبحاث التي أجراها اقتصاديون في الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن، التي تستخدم منهجية مختلفة، إلى أن المدخرات الفائضة ربما تكون استنفدت بالفعل.
بشكل مشابه، من الممكن أيضا أن تكون التجربة التي يعيشها المستهلكون أسوأ مما تشير إليه بيانات التوظيف والتضخم الرسمية. تشير الأبحاث التي أجراها معهد لودفيج للازدهار الاقتصادي المشترك، مؤسسة بحثية في واشنطن، إلى أن الفقراء يواجهون معدل تضخم حقيقي يبلغ 5.8 في المائة – وليس المعدل الرسمي 4.7 في المائة – لأن أسعار البضائع التي يستهلكونها ترتفع بوتيرة أسرع من المتوسط. كما يجادل بأن معدل البطالة أعلى من 20 في المائة – وليس المعدل الرسمي 3.7 في المائة – لأن كثيرا من "الوظائف" غير آمنة للغاية وذات أجور منخفضة. إذا كان هذا هو الوضع، فإنه يفسر الكآبة.
مع ذلك، التفسير الثاني المحتمل هو أن الاستطلاعات – وليس البيانات – هي التي تميل إلى الانحراف. بشكل أكثر تحديدا، من الممكن أن يستقرأ المستهلكون خوف أوسع من أسعار الفائدة المرتفعة، والمخاطر الجيوسياسية و/أو الجمود السياسي في تقييمهم للاقتصاد، ما يوجد تحيزا.
أحد الدلائل على أن هذا الانحراف قد يحدث هو أن استطلاع جامعة ميشيجان يظهر أن المستهلكين أكثر ابتهاجا بشأن مواردهم المالية الشخصية من الاقتصاد الكلي. السبب الآخر هو أن الجمهوريين أكثر تشاؤما من الديمقراطيين، رغم انتمائهم إلى المجموعة الاجتماعية والاقتصادية نفسها. على الأقل، هذا يدل على حماقة إيجاد نماذج اقتصادية حول مفهوم "الإنسان العقلاني" باستمرار.
بالطبع، من الممكن تماما – بل من المحتمل بالفعل – أن يكون كلا التفسيرين صحيحين، أي أن الاستطلاع والبيانات غير مكتملة. وهذا ما أظنه.
لكن مع استمرار الغموض، هناك درسان ملموسان. الأول هو أن هناك حاجة إلى جرعة كبيرة من التواضع في الوقت الحالي عند الحكم على المسار المستقبلي لاقتصاد أمريكا، الماضي ليس بالضرورة دليلا جيدا للاتجاهات المستقبلية، بالنظر إلى صدمة كوفيد.
ثانيا، يظهر عدم اليقين هذا أيضا سبب حاجة الاحتياطي الفيدرالي (وغيره) إلى إجراء مزيد من الأبحاث الإثنوغرافية على أرض الواقع لمعرفة كيف تتغير ثقافة المستهلك، وما إذا كانت هذه المشاعر القاتمة ستثبط الحماس في وقت لاحق من هذا العام.
هناك تلميحات عن احتمال حدوث ذلك، فقد تراجعت بيانات إنفاق المطاعم ومشتريات البضائع المعمرة التي صدرت أخيرا، من أعلى المستويات السابقة. لكن هؤلاء المتسوقين مجموعة محيرة في الوقت الحالي. هذا كثير على أمريكا التي تعد أرض التفاؤل.

الأكثر قراءة