مقياس الازدهار .. هناك ما هو أهم من الناتج المحلي الإجمالي
تظهر بين الحين والآخر قصص "مبهجة" على التلفزيون الأمريكي صباحا تصدم معظم الأوروبيين.
مثلا، عرض برنامج "جود مورنينج أمريكا" فقرة عن "هدية عصرية لزميلة العمل الحامل"، التبرع ببعض من إجازتك المحدودة مدفوعة الأجر لزميلتك الحامل، حتى تتمكن من قضاء وقت أطول مع طفلها حديث الولادة قبل العودة إلى العمل. قالت إحدى النساء إنها ممتنة لقضاء 12 أسبوعا كاملة مع طفلها قبل العودة إلى وظيفتها، وذلك بفضل إجازة تبرع بها زملاؤها. وتحدثت محطة تلفزيونية أخرى عن حكاية طاقم طبي تبرع بإجازات مدفوعة الأجر أثناء الجائحة لزميل مصاب بسرطان الدم.
إن تلك القصص ليست نادرة الحدوث. ما يقارب ربع أرباب العمل في الولايات المتحدة لديهم "برنامج للتبرع بالإجازات مدفوعة الأجر"، وفقا لاستطلاع أجرته الجمعية الأمريكية لأصحاب الأعمال. إحدى الجامعات مثلا، تمنح عمالها "فرصة التبرع بإجازاتهم المتراكمة لزملائهم الموظفين الذين يعانون مرضا أو إصابة قوية واستنفدوا كل إجازاتهم المتراكمة".
يتبرع الناس بإجازاتهم لبعضهم بعضا لأن النظام الأمريكي بخيل للغاية في هذا الصدد. ليس في أمريكا حق قانوني في إجازة أمومة مدفوعة الأجر أو إجازة مرضية مدفوعة الأجر على المستوى الوطني. ومن الصعب المبالغة في مدى نشوزها بين الدول الغنية بسبب هذا الأمر. في المتوسط، عبر دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يحق للأمهات الحصول على ما يقارب 19 أسبوعا من إجازة الأمومة مدفوعة الأجر. لقد أخذت إجازة لمدة عام تقريبا عندما أنجبت طفلا في المملكة المتحدة، وكانت معظمها مدفوعة الأجر.
أفكر في تفاوتات كهذه كلما سمعت أن الأوروبيين قلقون من أن قارتهم تتخلف عن الولايات المتحدة من حيث القوة الاقتصادية. ليس الأمر أن الناتج المحلي الإجمالي لا يهم، ولكن هل هو حقا المقياس الوحيد الذي يجب أن تقارن به الدول بغيرها، وما تحرزه من تقدم مع بعضها بعضا؟
إن هذا ليس سؤالا جديدا، فقد جادل الناس لعقود بأن الناتج المحلي الإجمالي مقياس غير كاف للازدهار الوطني أو مستويات المعيشة، لكن محاولات التوصل إلى شيء أفضل تميل إلى الانتهاء بعدم الوضوح. المشكلة هي أنه بمجرد أن تبدأ التفكير في العوامل المهمة، فإنه من الصعب معرفة متى تتوقف. معيار "الحياة الأفضل" لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية له 11 مؤشرا مختلفا. أما مكتب الإحصاءات الوطنية في المملكة المتحدة، حتى لا يتم التفوق عليه، فلديه 44 مؤشرا "للرفاهية الوطنية"، من المشاركة في الرياضة إلى مستويات الثقة بالحكومة. وفجأة، تنظر إلى "لوحة معلومات" مخيفة، رغم أنها مليئة بالمعلومات المثيرة للغاية، تجعل من الصعب معرفة ما يجري بشكل عام، فضلا عن مقارنة بلد ما ببلد آخر.
سيكون من الأفضل تبسيط الأمور. في رأيي، متوسط العمر المتوقع هو أهم مقياس تكميلي لأداء بلد ما. إنه مقياس كمي قوي يعتمد على معدلات الوفيات، وهناك أمور قليلة تهم أكثر الحياة والموت. كما أنه يتأثر بعوامل أخرى يهتم بها الناس بشدة، كعلاج الأطفال والأمهات، ونوعية الطعام، والرعاية الصحية، والتعليم، والتلوث، والوظائف، والجرائم. يمكن المجادلة بأن "متوسط العمر الصحي المتوقع"، وهو مقياس للأعوام التي يعيش فيها الناس في صحة جيدة، سيكون أفضل كمقياس، لكن البيانات المتاحة الآن موضوعية للغاية لدرجة لا يمكن مقارنة الاتجاهات بقوة عبر الدول.
بالطبع، يهتم صانعو السياسات بمتوسط العمر المتوقع بالفعل. ولكن كيف سيبدو العالم إذا قارن السياسيون هذه الإحصائيات بهوس وقلق كما يفعلون مع اتجاهات الناتج المحلي الإجمالي؟ بهذا المقياس، لن يحسد بقية العالم الغني الولايات المتحدة. حتى مع نمو اقتصادها، فإن متوسط العمر المتوقع لشعبها يتراجع أكثر مقارنة بغيره. في 1980، كان متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة هو نفسه تقريبا في إيطاليا وفرنسا، وأعلى من المملكة المتحدة وألمانيا. لقد هبطت نسبته إلى قاع تلك المجموعة بحلول التسعينيات، والآن تتجاوزها الدول الأكثر فقرا من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد. رغم كل الاهتمام حول متى "أو إذا" سيتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني مثيله في أمريكا، فإن متوسط العمر المتوقع في الصين قد حقق بالفعل هذا الإنجاز بهدوء.
لا يعني أي من هذا أن الناتج المحلي الإجمالي لا يهم. بل هو عامل يمثل حجم الاقتصاد، حيث يساعد على تحديد ما يمكن أن يفعله بلد ما في العالم، فضلا عن نوع الحياة التي يمكن أن يوفرها لشعبه. ليس من المستغرب إذن أن يكون الناتج المحلي الإجمالي للفرد ومتوسط العمر المتوقع مترابطين تقريبا، ولكن هناك استثناءات كثيرة يمكن تعلم الدروس منها. بعض الدول تتخطى وزنها الاقتصادي عندما يتعلق الأمر بمتوسط العمر المتوقع، كإسبانيا وإيطاليا واليابان بنظامها الغذائي الصحي. والولايات المتحدة، ببنادقها وأطعمتها المصنعة وشبكة الأمان السيئة، تتخلف عن وزنها الاقتصادي بكثير.
غالبا ما يحاول الأشخاص الذين يهتمون بالصحة ويريدون التأثير في صانعي السياسات أو الجمهور إبراز تأثيرها في الاقتصاد. إذ تدعي إحدى الدراسات التي أجرتها شركة ماكينزي أن "الصحة السيئة تقلل الناتج المحلي الإجمالي العالمي 15 في المائة كل عام". ويشير تقرير آخر إلى أن "اعتلال الصحة المستوطن في الأحياء المهملة في إنجلترا يكلف البلد ما يقارب 30 مليار جنيه استرليني سنويا لأن الناس في الأغلب ما يكونون مرضى للغاية لدرجة أنه يتعذر عليهم العمل ويموتون في وقت مبكر. ولكن هذا فهم عكسي للأمور. نحن لا نريد أن نعيش حياة طويلة وصحية حتى نتمكن من توليد الناتج المحلي الإجمالي، نريد الناتج المحلي الإجمالي حتى نتمكن من عيش حياة طويلة وصحية.
لا حرج في وجود القليل من المنافسة الصحية بين الدول. ولكن عندما يتعلق الأمر بالنمو الاقتصادي، دعونا لا نخلط بين الوسائل والغايات.