الصناعات التحويلية ومؤشر المشتريات

لا يزال الأداء الاقتصادي في الولايات المتحدة خاضعا لضغوط التضخم، وإن لم يدخل الاقتصاد المحلي حقا دائرة الركود. وشهدت أمريكا بعض التحسن في جوانب وقطاعات متعددة، لكن هذا لم يخرجها من الفترة الاقتصادية الحرجة بعد، حتى بعد أن سجلت مؤشرات العمل والتشغيل ارتفاعات لافتة، لكنها ليست رئيسة وجذرية بالشكل المطلوب.
الضغوط الجديدة أتت من جهة الصناعات التحويلية، التي تراجع نشاطها في الشهر الماضي إلى مستويات مماثلة لتلك التي سجلت خلال فترة جائحة كورونا. فهذه الأخيرة ضربت الاقتصاد العالمي عموما، لكنها أثرت بصورة كبيرة في الاقتصادات المتقدمة، ولا تزال تداعياتها مؤثرة في الساحة. والصناعات التحويلية الأمريكية تعد في حد ذاتها مؤشرا مهما على صعيد النشاط الاقتصادي في فترة الازدهار أو المصاعب، التي يمر بها هذا الاقتصاد أو ذاك.
وقد مرت هذه الصناعات بأطول فترة تراجع منذ الكساد العظيم في نهاية عشرينيات القرن الماضي، ما يربك المشهد الاقتصادي العام، في الوقت الذي يحاول فيه المشرعون الأمريكيون سد كل الثغرات، التي يمكن أن يتغلغل منها الركود المخيف. والحق، أن الاقتصاد الأمريكي صمد حتى اليوم في هذا الاتجاه، إلا أنه ليس محصنا تماما، في ظل الرفع المتتالي لأسعار الفائدة بغية وقف موجة التضخم.
ويعد هذا الاقتصاد الأفضل على الأقل في الوقت الراهن، مقارنة بأمثاله من الاقتصادات الغربية، خصوصا البريطاني وبعض اقتصادات أوروبا. والصناعات التحويلية هي أكثر النشاطات الاقتصادية، التي تعاني عادة وجود فائدة مرتفعة، حيث بلغت في الجانب الأمريكي في آخر تحديث لها بين 5 و5.25 في المائة. وتأتي هذه النسبة، في سياق أقوى حملة تشديد نقدي في الداخل الأمريكي منذ أكثر من 40 عاما.
والمشكلة التي لا تزال تواجه المشرعين في الولايات المتحدة، أنهم مضطرون لترك الباب مفتوحا أمام زيادة تكلفة الإقراض في الفترة المتبقية من هذا العام، مع مؤشرات ليست ثابتة لمصير أسعار المستهلكين عموما. بمعنى آخر، أن التضخم ربما قفز للأعلى ولو بنسب بسيطة. والنقطة المهمة هنا أيضا، أن الإنفاق يتحول عادة في ظل التشديد النقدي من السلع إلى الخدمات التي يشتريها المستهلكون عن طريق الاقتراض.
وعلى هذا الأساس، تشهد الصناعات التحويلية تراجعات تاريخية على الساحة الأمريكية. فقد انخفض مؤشر مديري مشتريات هذا القطاع إلى 46 نقطة الشهر الماضي، للشهر الثامن، ما يعد أطول فترة هبوط منذ نحو 100 عام. والانكماش في هذه الصناعات سيتواصل في ظل المشهد الاقتصادي العالمي، بصرف النظر عن المشتريات. وأيضا في مسار آخر، تعمل الشركات الأمريكية في إدارة مخزوناتها بحرص تحسبا لضعف الطلب وخوفا من ضغوط أخرى تزيد من تفاقم الأزمة.
ومن المشكلات أيضا على صعيد مسار مؤشر الصناعات التحويلية الأمريكية، أن أغلبية المختصين كانوا يتوقعون ارتفاعا في هذا القطاع، ولو بنسبة بسيطة، إلا أن النتيجة الحقيقية جاءت عكس كل هذه التوقعات. مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه الصناعات تمثل 11.1 في المائة من إجمالي الاقتصاد الأمريكي. غير أن الإدارة الأمريكية لا تزال تعتقد بأن قوة سوق العمل ستتواصل في وتيرة إيجابية، وأن المجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) قادر على كبح جماح التضخم في الفترة المقبلة، بل ترى وزيرة الخزانة جانيت يلين، أن وضع العمل سيكون أفضل حتى لو تراجعت وتيرة النشاط الاقتصادي المحلي، لكن الأمور تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، فإذا تمكنت واشنطن من تفادي الركود قبل نهاية العام الحالي، فإنها ربما حققت قفزات معقولة على صعيد التشغيل والأداء الاقتصادي العام. ومن هذه النقطة يبقى كل شيء مرتبطا بصورة أو بأخرى بالمراجعات المقبلة لمستويات الفائدة الأساسية. فالتشديد النقدي المستمر، لا يترك عادة مجالا واسعا لتحرك اقتصادي واسع النطاق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي