غش الرجل للمرأة مع سبق الإصرار والترصد..!
في رسالة إلكترونية وصلتني من أحد الزملاء الكرام, نقل فيها عن أخ مستاء من فتوى منع النكاح بنية الطلاق, بحجة أن النساء في بعض البلاد العربية والإسلامية تعيش في بلاد قد يصعب عليها الزواج، نظراً لإعراض الشباب هناك عن الزواج؛ لكثرة تكاليفه.. إلخ, وقال: إن التزوج بالمرأة بنية الطلاق خير لها من أن تبقى هكذا دون زوج, ونحو ذلك من المبررات الباهتة, والتي عادة ما يختلقها الزوج لا المرأة..! والمشكلة أن ينظر لهذا النكاح من زاوية ضيقة, دون استحضار للقضايا الشرعية والاجتماعية في مثل هذا النوع من النكاح, ولهذا أجدني مضطراً إلى تفصيل الرأي في هذا النكاح, ولا سيما في ظل هذه الإجازة الصيفية التي يكثر فيها السفر إلى الخارج من أجل النكاح بنية الطلاق, وكثيراً ما يعقد النكاح في السفرة الواحدة لمرات عدة..! فأقول:
الزوج حين يتقدم لخطبة المرأة: إما أن يتقدم مبدياً الرغبة في الانفصال خلال مدة إقامته في البلاد التي سافر إليها, وإما أن يتقدم مبدياً الرغبة في العشرة الزوجية, ومد جسور الارتباط بين الأسرتين, والاتصال بينهما بوصل المصاهرة, وعقدة النكاح, فإن تقدم مبديا الرغبة الأولى, وكان مظهراً لنية الطلاق, مبدياً لرغبته في الفراق, ووافقت المرأة وأولياؤها مع علمهم بذلك, فهو أشبه بنكاح المتعة؛ لأن كلا العاقدين على علم بتأقيت النكاح, وكثيراً ما يكون أولياء المرأة على علم بذلك؛ ولا سيما من الأزواج الذين يفدون إليهم من الخارج, والمعروف توافدهم من بلاد معينة...! ومعلوم أن نكاح المتعة محرم وباطل بإجماع أهل السنة.
أما إن تقدم مبدياً الرغبة الثانية, وهو يضمر خلاف ما يظهر, فهو غاش, مخادع, وقد جاء في الحديث «من غشنا فليس منا»، وأي غش أعظم من إضمار الزوج الطلاق بعد أسبوعين أو ثلاثة, والمرأة في قرارة نفسها أنه تقدم إليها ليكون شريك حياتها, وفارس أحلامها...! وأي ضرر سيلحقها من جراء هذه المخادعة...! وإذا كان الشارع الحكيم قد حرَّم خطبة المسلم على خطبة أخيه؛ لما يلحق الخاطب الأول من أذى في نفسه, وكدر في شعوره, فأي أذى سيلحق هذه المرأة حين تطلق بعد أن تُنكح بأيام معدودة..؟ وهل هذه الأذية أقل من أذية المخطوب على خطبته, أم أعظم..؟ إن النسبة بين النكاح بنية الطلاق وبالخطبة على الخطبة, كالنسبة بين الجرح العميق والخدش؛ لأن غش المرأة بإضمار الطلاق لحظة النكاح ظلم بيِّن, وأما الخطبة على خطبة المسلم فهي مجرد أذية تخدش شعوره, وقد تفوت عليه فرصة ما...!
إن النكاح بنية الطلاق تتولد منه أضرار عدة, وهي أضرار تمس الأسرة المسلمة في أعز ما تملك, وهو نسيجها الاجتماعي, حيث يكرس هذا النكاح القطيعة, وينشئ جيلاً من الأبناء مشتتاً بين والديه, تائهاً في مجتمعه, وربما يقال إن تشتت الأولاد, وما يتعرضون له من مشاكل اجتماعية, هو واقع أيضاً في الحالات العادية للطلاق, والواقع أن الخطب هنا أشد؛ لأنه في حالة القول بجواز النكاح بنية الطلاق نكون قد سمحنا للأب بأن يضمر القطيعة عند إنشاء العقد, وأن يستعد لعقوقه لأولاده منذ لحظة إجراء العقد, وهنا يقع الخلل, فالإسلام شرع الطلاق ليكون مخرجاً للحالات التي لا تعالج إلا بالكي, أما أن يربي الإسلام في نفوس أبنائه الطلاق عند إجراء العقد, فيدخل الخاطب على أولياء المرأة وهو يوزع الابتسامات, ويبادلهم أجمل العبارات, والواقع أنه يتربص بهم, وينتظر الفرصة لينقض على فريسته, من أجل أن يهدئ من حرارة شهوته, فهذا ما لا يصح أن يظن بالإسلام, لأنه دين رحمة ومودة, ودين شفافية ووضوح, وليس دين كذب أو غموض, أو انتهازية, وقد شرع الإسلام النكاح ليكون بوابة لأسرة مسلمة, ولنسيج اجتماعي مترابط.
وإذا كان الإسلام قد حرم الكذب في المزاح والجد, فكيف يبيحه فيما جدهن جد, وهزلهن جد..؟ وإذا كان قد حرَّم النميمة التي تفرق بين المسلم وأخيه, فكيف يُقَنِّن إضمار الطلاق للناكح ليمهِّد للفراق بين الزوج وامرأته..؟ وإذا كان قد أمر الزوج أن يغض طرفه عن عيوب امرأته لتبقى في عصمته, فكيف يشرِّع له أن يضمر فكاكها عن عصمته, وطرفه لا يرى إلا ما يدعوه إلى نكاحها..؟
وهل يمنع الإسلام من نكاح المتعة الذي يدرك العاقدان أنه مؤقت, ويسمح بهذا النكاح الذي يدرك أحدهما توقيته ويجهله الآخر؟ أيمنعه في حال العلم, ويسمح به في حال الجهالة؟ أيمنعه في حال الرضا, ويسمح به في حال الإكراه؟ وهل يمنع الإسلام ولي المرأة من تزويجها إلا بإذنها, ويسمح للخاطب بأن يتزوجها رغماً عن أنفها؟ نعم رغماً عن أنفها...؛ لأنها قبلت بنكاحه ليكون زوجاً لها, لا ليكون معاشرا لها لليلة أو ليلتين..! فإيجاب الولي «بإذن موليته» لم يكن ملاقياً لقبول الزوج, إلا ظاهراً..! كمن يوجب على شراء سيارة صالحة للاستعمال, فيقبل الآخر, والحال أن القبول على سيارة لا تحتمل السير إلا مسافة قليلة...! والمعروف عرفاً كالمشروط شرطا, على ما قرره الفقهاء رحمهم الله تعالى.
إن بعض مَن يمارس هذا النوع من النكاح يحتج بأنه مقلد لبعض الفقهاء الذين قالوا بجواز النكاح بنية الطلاق...! ولكن ما يجب أن أنبه عليه هنا: أن أقوال الفقهاء يجب أن تأتي في سياقها, لا أن تُجتزأ من واقعها لتطبق في واقعٍ محفوفٍ بمفاسد مستجدة لهذا النكاح, وعلى التسليم, فإن أقوال الفقهاء ليست أدلة يحتج بها, ولكنها آراء يُستضاء بها, ولا يحتج العالم ولا المقلد إلا بالأدلة الشرعية فقط, فإن أراد المقلد أن يحتج برأي الجمهور هنا, فليحتج بآرائهم في كل مسألة أدلوا برأيهم فيها, وليكن على قاعدة واحدة؛ لئلا يتناقض, ويقع في ورطة تتبع الرخص (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، وهل تطمئن نفس المؤمن وقلبه لنكاحٍ يخدع فيه المرأة, ويبدي لها فيه صدق المودة والمحبة, وهو يضمر الفرقة والطلاق خلال أيام قلائل...؟
إن مَن يُجيز هذا النكاح لابنة غيره لصالح نفسه, لا يرضاه لابنته وأخته لصالح غيره, فكيف يحتج بآراء الفقهاء على فعل نفسه, ولا يحتج بها على فعل غيره؟ وكيف يسمح هذا الزوج لنفسه أن يخادع غيره بإضمار نية الطلاق, ولا يسمح لغيره أن يخادعه بإضمار هذه النية؟ وإذا كانت نية إضمار التحليل للمطلق ثلاثاً محرمة, وباطلة شرعاً, فكيف إذن تجوز نية إضمار الطلاق عند عقد النكاح, وكلاهما من عمل القلب, لا الجوارح, وكلاهما أيضا مستكمل الأركان والشروط؟
لقد أصبح الكثير من هؤلاء البنات الضحايا داعرات بسبب هذه الزيجات المكررة منذ نعومة أظفارهن, حيث تعتاد البنت أن يتزوج عليها الرجل, لينزو عليها, ويستمتع بها, لا لأجل أن تفتح بيتاً للزوجية تنعم فيه بحياة زوجية مستقرة, وهكذا بتوارد الرجال عليها مرة بعد مرة, يتخرج من تلك الأسر الفقيرة بنات داعرات بامتياز على شرف أزواجهن, وبرعاية كريمة من رب الأسرة, الذي باع شرف ابنته وسعادتها بثمن بخس دراهم معدودة..!