عملة منافسة للدولار .. هل تصبح «بريكس» مجموعة موازية لـ «السبع»؟

عملة منافسة للدولار .. هل تصبح «بريكس» مجموعة موازية لـ «السبع»؟
عملة منافسة للدولار .. هل تصبح «بريكس» مجموعة موازية لـ «السبع»؟

من المقرر أن تستضيف دولة جنوب إفريقيا في آب (أغسطس) المقبل قمة القادة الخمسة لمجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا).
ووفقا لما أعلن فإن طرح عملة مشتركة لدول المجموعة سيكون واحدا من البنود المدرجة على جدول الأعمال، وعلى الرغم من أن قادة المجموعة لم يتفقوا بعد على اسم للعملة المقترحة، فمن المؤكد أن رغبة جادة تجمعهم للمضي قدما لطرح عملة مشتركة بينهم.
القمة المقبلة بين الدول الخمس تعد واحدة من أهم القمم التي ستعقدها المجموعة التي أسست في منتصف 2009 بين أربع دول هي: البرازيل وروسيا والهند والصين في اجتماع استضافته مدينة يكاترينبورج الروسية، ولم يمض عام على تأسيس المجموعة إلا وانضمت إليها جنوب إفريقيا، ومنذ اللحظات الأولى للتأسيس والمجموعة تضع على عاتقها الدعوة إلى تمثيل أكبر وأكثر عدالة للاقتصادات الناشئة في الاقتصاد الدولي.
وفي الواقع فإن فكرة العملة المشتركة لدول المجموعة كانت دائما جزءا لا يتجزأ من منطق التفكير السائد لدى قادتها ومنظريها، ومنذ وضع اللبنات الأولى للمجموعة ودول البريكس تسعى بمختلف الطرق لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، وازداد الأمر أهمية وإلحاحا مع الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا، والضغوط التي تمارسها واشنطن على المجتمع الدولي للانضمام إليها في تعميم تلك العقوبات، ملوحة بجزرة المساعدات والدولار حينا ومهددة بسياط الحرمان الاقتصادي وشح الدولار حينا آخر.
لكن ما مدى واقعية فكرة العملة المشتركة لدول البريكس؟ وهل تمتلك دول المجموعة قواسم جامعة تمكنها بالفعل من إصدار وطرح تلك العملة للتداول؟ وحتى لو تمكنت من ذلك، فهل ستحمل عملتهم أي إمكانية للنجاح والقبول الدولي بها؟
وهل ستساعد تلك العملة على توسيع نطاق المجموعة وانضمام دول جديدة لعضويتها، خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة وأزمة سقف الديون الأمريكية أخيرا التي أثارت مخاوف البلدان الأخرى بشأن ديونها المقومة بالدولار أم ستكون عملة البريكس عقبة أمام جلب مزيد من الأعضاء الجدد الذين سيعيدون التفكير مرة أخرى في قرار الانضمام خشية أن يؤدي اتساع نطاق استخدام عملة البريكس المقترحة إلى هزة مالية عالمية نتيجة تحديها للدولار؟
وحتى إذا كانت الرغبة في طرح عملة مشتركة لدول البريكس أمرا مشروعا، فإن هذا لا ينفي حجم التحديات التي تواجه الفكرة وتنوع العقبات التي تقف في طريقها قبل أن تصبح حقيقة واقعية إن أصبحت كذلك يوما ما.
من نافلة القول إن الدولار الأمريكي يحق له أن يلقب بسيد العملات، فـ88 في المائة تقريبا من المعاملات الدولية تتم بالدولار، وما يراوح بين 60 - 65 في المائة من احتياطات النقد الأجنبي العالمي بالدولار، لكن هذا لا ينفي أيضا أن الدولار يواجه تحديات متزايدة في الأعوام الأخيرة.
دول البريكس التي تشكل مجتمعه ربع مساحة اليابسة، و40 في المائة من سكان الكوكب، و25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وسعت نطاق المبادرات التي تتبناها لتقليل اعتمادها على الدولار.
ويلاحظ أن روسيا والصين والبرازيل تحولت إلى استخدام مزيد من العملات غير الدولارية في معاملاتها التجارية الدولية.
من جانبها، ترى الدكتورة إميلي ميلز أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة لندن، أن عددا من العملات الدولية مثل اليورو والاسترليني والين تنافس الدولار في هيمنته على الاقتصاد الدولي، لكن مع ذلك تظل العملة الأمريكية ومركزيتها في الاقتصاد العالمي مستقرة حتى الآن، إلا أن طرح عملة من قبل مجموعة البريكس على المسرح الاقتصادي العالمي قد يغير المشهد الدولي برمته.
وذكرت لـ"الاقتصادية": "مجموعة البريكس تنمو تدريجيا، وإذا حافظت على وحدتها وأفلحت في ضم اقتصادات كبرى كما يتوقع البعض، فإنها ستصبح مجموعة موازية لمجموعة السبع، وعلى الرغم من أن مساعي بعض الحكومات للتحرر من هيمنة الدولار تعود إلى ستينيات القرن الماضي ولم تحقق حتى الآن كثيرا من النجاح، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمجموعة البريكس".
وتستدرك قائلة: "احتمالات نجاح عملة صادرة من مجموعة البريكس أمر وارد، فدول المجموعة حققت فائضا في ميزان المدفوعات العام الماضي بلغ 387 مليار دولار، وذلك في الوقت الذي بلغ فيه العجز التجاري في منطقة اليورو 476 مليار دولار عام 2022، وبذلك يمكن لمجموعة البريكس استخدام تلك العملة المشتركة لتعزيز التجارة البينية بينها، خاصة أن المجموعة لديها درجة عالية للغاية من التنوع الإنتاجي".
ويتفق الخبير المصرفي تيم ديفي مع وجهة النظر تلك، بالقول: "ليس بالضرورة أن تطيح عملة البريكس بالدولار بمجرد صدورها أو حتى بعد أعوام من الاستخدام، ولكن يمكنها أن تنزع عن الدولار الأمريكي تاج سيد العملات، كما ستقلص نطاق التعامل به لدى نحو 40 في المائة من سكان الكوكب هم عدد سكان المجموعة، وستجعل عملة البريكس -إن صدرت- العالم متعدد الأقطاب فعليا فيما يتعلق بالنظام النقدي".
وأضاف في حديثه لـ"الاقتصادية": "قد يكون من المثير أن نشهد بعض الدوائر الأمريكية تغمض الطرف عن عملة بريكس، بل سترحب بها، فهناك شعور لدى دوائر اليمين الاقتصادي الأمريكي من أن تنامي قوة الدولار أضعف قدرة الولايات المتحدة على المنافسة التجارية في الساحة الدولية، وانعكس ذلك على التوظيف، ولذلك قد نجد ترحيبا من بعض الاقتصاديين الأمريكيين في الحزب الجمهوري بعملة البريكس، لكن شريطة أن تقلص بعضا من القوة المفرطة للدولار دون أن تؤدي إلى إضعافه تماما".
على الجانب الآخر، يرى بعض المنتقدين لمشروع عملة البريكس أن الاختلافات الكبيرة الموجودة بين الدول الخمس من حيث الإنتاج والنمو والانفتاح المالي تعيق إصدار تلك العملة، وإن صدرت فلن يكون لها موقع قوي في الاقتصاد العالمي.
ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بالأسعار الثابتة بين عامي 2008 و2021 ارتفع بنسبة 138 في المائة في الصين و58 في المائة في الهند و13 في المائة في روسيا و4 في المائة في البرازيل وتقلص بنسبة 4 في المائة في جنوب إفريقيا.
كما أن الوزن الاقتصادي الساحق للصين الذي يمثل 72 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لدول المجموعة، يجعل بلد مثل الهند في حالة تشكك من المصالح التي يمكن أن تعود عليها من تلك العملة.
هنا يعتقد الدكتور آرثر جروس أستاذ النقود والبنوك السابق في جامعة جلاسكو، أن هناك مبالغة إعلامية وعالمية على حد قوله فيما ستمثله تلك العملة من مخاطر على الدولار الأمريكي.
وحول أسباب ذلك، قال لـ"الاقتصادية": إن "انتقاد هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي ليس حكرا على مجموعة البريكس، بل إن حلفاء الولايات المتحدة وأعني الاتحاد الأوروبي ينتقد تلك الهيمنة... وبالنسبة لدول البريكس فإن الأمر يختلف عن الاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة اليورو".
وأضاف: "دول البريكس تتحد في رفض الهيمنة الأمريكية، وبخلاف ذلك سنجد كثيرا من التناقضات والاختلافات الجذرية بينها، فالروس يدعون لإلغاء هيمنة الدولار لتخفيف وقع العقوبات الدولية عليهم، الصينيون يريدون إضعاف الدولار لفتح الطريق أمام اليوان على أمل أن يتحول لعملة دولية، أما الهند فإنها تستبعد أن تسير في هذا المسار بشكل جدي بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي إلى الولايات المتحدة وتوقيع عدد من الاتفاقيات المهمة التي تعزز التعاون التجاري والتكنولوجي بين الطرفين، التي ستكون بالدولار، ولا يجب أن ننسى الاقتتال الحدودي بين الهند والصين".
وتابع: "البرازيل دولة تنتقل من أقصى اليمين تحت حكم جايير بولسونارو إلى حكم لولا داسيلفيا اليساري، ولا يمكن التعويل على التزاماتها، ومن ثم فالعداء للدولار عنوان عريض قد يوحد قادة المجموعة، لكن عند الخوض في التفاصيل سنكتشف أن الفكرة أصعب بكثير من أن تترجم إلى واقع فعلي ناجح".
ربما يعزز وجهة النظر تلك أن عددا من المشاريع الضخمة لدول المجموعة والرامية لإيجاد بنية تحتية موازية للبنى التحتية الغربية لم تحقق نجاحا، فعلى سبيل المثال لم تفلح البريكس في تطوير وكالة تصنيف ائتماني لدول المجموعة، كما أخفقت في إنشاء كابل بحري بين الدول الأعضاء.
والرغبة في إصدار عملة مشتركة لدول البريكس التي تمثل تحديا لهيمنة الدولار الأمريكي كما يعتقد البعض، لا يمكن أن تنجح بمعزل عن العوامل الأوسع نطاقا التي تحكم النظام النقدي الدولي، فالوضعية الراهنة للدولار كعملة احتياطية أساسية لها جذور عميقة في البنية الاقتصادية الدولية يدعمها قوة الاقتصاد الأمريكي والمؤسسات الراسخة لديه والجاذبية التي يتمتع بها الدولار في أسواق المال العالمية، ومن ثم فإن تحدي هيمنة الدولار الأمريكي يتطلب جهودا كبيرة وبدائل توفر فوائد متساوية للجميع.
وعلى الرغم من أن الحديث عن عملة البريكس اكتسب زخما في الآونة الأخيرة، إلا أن المعلومات المتاحة بشأن النموذج الذي قد يحظى بالقبول بين دول المجموعة لا يزال شحيحا، فتبنى مسارا مشابها لليورو قد يبدو طموحا للغاية، فعدم تناسق القوة الاقتصادية بين بلدان البريكس، والظروف والأوضاع السياسية المختلفة والمعقدة لكل دولة يجعل من مسار اليورو أمرا مستبعدا أو صعب المنال على الأقل حاليا.
في هذا السياق، قال لـ"الاقتصادية" الخبير المصرفي بيلي جاكس: "لكي تنجح العملة الجديدة ستحتاج دول البريكس إلى الموافقة على آلية سعر الصرف، وأن يكون لديها أنظمة دفع فعالة وسوق مالية جيدة التنظيم ومستقرة، ولتحقيق وضع عالمي للعملة ستحتاج بريكس إلى سجل من النجاحات المتواصلة لإقناع المجتمع الدولي بأن عملتها يمكن الاعتماد عليها".
وأضاف أن "دول المجموعة لم تظهر أي نية أو رغبة في التخلي عن عملتها الوطنية، ما يستبعد معه أن تسير في مسار الاتحاد الأوروبي وتصدر عملة موحدة كاليورو، وإنما يرجح أن تؤسس لنظام دفع متكامل فعال للمعاملات العابرة للحدود، كخطوة أولية على أن يتم تطويرها لاحقا لتصبح عملة".
واللبنات الأولى لفكرة نظام دفع متكامل وفعال موجود بالفعل بين دول البريكس، إذ أطلقت في 2010 آلية للتعاون البنكي لتسهيل المدفوعات البينية بين بنوكها وبالعملات المحلية، وتعمل حاليا على تطوير نظام دفع المعاملات بين الدول الأعضاء دون الحاجة إلى تحويل العملة المحلية إلى دولار.
وعلى الرغم من أن الأدبيات الاقتصادية للمجموعة تتحدث حاليا عن إصدار عملة مشفرة كشكل من أشكال تطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية لتعزيز التعاون البيني خاصة مع تزايد التوقعات بضم عدد جديد من الدول لعضويتها، إلا أن كثيرا من الخبراء يعتقد أن الحديث عن عملة مشفرة للأعضاء يدخل في الوقت الحالي في مجال التمنيات أكثر منه واقعا يمكن تطبيقه.
وبالطبع تدرك دول البريكس أن إنشاء عملة موحدة ليس بالأمر السهل أو الخطوة اليسيرة، خاصة أن جهودها لخفض الاعتماد على الدولار على المستويين متعدد الأطراف والبيني، لم تقطع بعد شوطا كبيرا في هذا المجال، فبنك التنمية الجديد الذي أطلقته المجموعة 2014، كان من ضمن أهدافه أن يتم توفير التمويل بالعملة المحلية للبلد الذي تتم فيه العملية التجارية، لكن بعد مرور تسعة أعوام تقريبا على إنشاء البنك فإنه لا يزال يعتمد بشدة على الدولار، ولا يمثل التمويل بالعملة المحلية أكثر من 22 في المائة من محفظة البنك، ولا يتجاوز أقصى طموح له حدود الوصول إلى نسبة 30 في المائة بحلول 2026.
مع هذا فإن الاختلافات القائمة بين دول المجموعة لا تنفي أنها نجحت في تطوير سياسات مشتركة واستثمرت في مؤسسات مالية جديدة وواصلت توسيع نطاق تعاونها الاقتصادي، كما أن الحديث في حد ذاته عن عملة مشتركة حتى إن لم يتحقق يمثل خطوة مهمة تكشف عن رغبة في تنسيق حقيقي قد يمثل تحديا للدولار يوما ما.
والمناقشات بشأن عملة بريكس حتى وإن لم تسفر عن تنفيذ ملموس تسلط الضوء على التطلعات لزيادة التكامل المالي، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتعكس الفكرة اعترافا من دول بريكس بالمزايا التي يمكن أن تنشأ من توثيق التعاون النقدي بين دول المجموعة.
وعلى الرغم من أن إنشاء عملة مشتركة لدول المجموعة يمثل تحديات كبيرة ويتطلب إجماعا بين الدول الأعضاء، فإن مجرد النظر في مثل هذه العملية يشير إلى استعدادها لاستكشاف بدائل للنظام المالي العالمي الحالي، وهذا بدوره قد يكون له تداعيات على دور الولايات المتحدة في التجارة والتمويل.
وقد تستغرق عملية التكامل والتنسيق الاقتصادي وقتا طويلا، ويرجح أن تواصل دول البريكس التعامل مع مختلف الاعتبارات الاقتصادية والسياسية في سعيها لتوثيق تعاونها، وفي نهاية المطاف فإن تحديها لهيمنة الدولار سيعتمد على قدرة المجموعة على التغلب على الاختلافات وتنفيذ آليات تعاون فعالة.

الأكثر قراءة