عندما يكون الفشل محفزا للفشل
تحدثت في مقالات سابقة حول التعلم من الفشل، ولو تتبعت هذا الموضوع المهم لوجدت كثيرا، خصوصا في حديث من يشارك خبراته أو ينظر في تجارب الآخرين. فعلا، الفشل يؤسس للنجاح، وهذا يحدث وفق شروط معينة منها الرغبة في التعلم والتوثيق والملاحظة والتواضع للتجربة. لكن في كثير من الحالات والتجارب يحدث أمر معاكس، إذ يجر الفشل فشلا آخر، ويقلد الفاشل الفاشلين ويحفز الفشل في المنظمة للمزيد من الفشل، فكيف يحدث ذلك؟
في بيئة العمل يسميها بعضهم "السمية" ويطلق بعضهم عليها "السلبية" أو "بيئة تقتل الإبداع"، أو يصفون الواقع حين يجابهون التحديات بأن "الإمكانات محدودة" و"القدرات ضعيفة"، وهناك مفردات أخرى كثيرة تصف ما يحدث من انتشار لعدوى الفشل في أماكن العمل. من اللافت أن عدوى الفشل تحدث كثيرا حتى دون أن ينتبه إليها أحد، قد تنتشر وتهدم وتدمر ولا يلاحظها أحد، إلا بعد انتشار النار في الهشيم، وبعد أن يصبح الإصلاح مكلفا جدا، وبعد أن تكثر كباش الفداء. كثير من حالات التغاضي والتجاهل والجهل لانتشار مثل هذه العدوى يجعل الصالح يتأثر بالطالح ويجعل عملية التقويم قاسية وربما ينظلم فيها موظف متروك بلا تطوير أو تضحي الشركة بفريق كامل إثر عملية إعادة هيكلة اضطرارية، وهذه من الإجراءات الجراحية المستعجلة التي تلجأ إليها القيادات بعد أن تكون أطالت الغفوة وتأخرت في التشخيص والعلاج.
ولكن كيف تصنع حالة الفشل حالة أخرى، وكيف يحفز الفاشل الفشل عند الآخرين. في الحقيقة هناك عدد كبير من الأمثلة والصور التي تحدث بها هذه الظاهرة. من أولها انتشار اليأس والإحباط من تجربة فاشلة أو عدة تجارب فاشلة، وهذا قد يحدث بشكل عمودي أو أفقي، فيتكرر الفشل في الفريق نفسه لمشاريع وأنشطة مشابهة أو يتكرر في فرق أخرى في ظروف أخرى. والسبب باختصار يعود لضعف إيمان الأشخاص بقدرتهم على النجاح بسبب إرهاصات المطب الأول الذي وقعوا فيه، أو الذي وقع غيرهم فيه. عندما تحدث مثل هذه الأمور يعزو الأفراد الأمر إلى الأسباب التي تجعله يبدو منطقيا ومعقولا في مخيلتهم. مثلا يقولون إن الفشل حدث بسبب ظروف خارجية لا يتحكمون بها، أو بأن النجاح مستحيل في ظل ضعف الموارد التي تقدمها المنظمة، أو أن صانع القرار يرفض مقترحهم لأنه قصير نظر لا يعي قيمة ما اقترحوه. قد تقترب هذه المسببات من الواقع، لكن في بيئة الفشل تستخدم في أكثر الحالات لتبرير معتقداتهم السلبية.
ومثلما تقع الطيور على أشباهها، يجمع الفاشل أقرانه من الفاشلين حوله. المنظومة الناجحة تحتوي على فلتر طبيعي وتلقائي لزيادة جودة مدخلاته وإخراج كل ما هو ضعيف وسيئ خارج المعادلة، إما بتطويره وإصلاحه أو بالتخلص منه. ومثل ذلك تماما تعمل المنظومة الفاشلة، لكن يعمل فلترها بشكل معاكس، فيجمع الفاشلين ويستبعد الناجحين، يعزز النماذج الفاشلة ويدعو لها، ويمنع التحسين ويقاوم التطوير. ستجد في مثل هذه الأماكن أن التوظيف يغذي المنظمة بعناصر ضعيفة أو جاهزة للفشل، وستجد أن الناجح يهرب، وسترى أن الممارسات التي تؤدي إلى الفشل تنتشر وتثبت في بيئة وثقافة المكان.
من أوضح أمثلة الفشل المعدي أو المتكرر ما يحدث بسبب ضعف المحاسبة. لاحظ أن الفشل هنا لا ينتشر بسبب الاعتقاد أو الإحباط، وإنما لأن الفريق الفاشل لم يحاسبه أحد. فالفشل إذن مقبول والقيام به مستلطف وتكراره مشجع. وفي مثل هذه البيئات تجد أن معايير النجاح غير واضحة ولحظة الفشل غير محسومة، إذ يصبح التأخير في تسليم المشاريع مقبول وتجاوز معايير الأداء غير ملاحظ. تبدأ هذه الممارسات تتشكل بالتدريج حتى تصبح جزءا من الثقافة السائدة.
من مشاهد انتشار الفشل ما يحدث بسبب ضعف التواصل وسوء الفهم. تقوم المنظمات على القاعدة التي تقول قيمة مجموع الأجزاء مجتمعة أكبر من قيمة مجموعها منفردة، وهذه هي القيمة الأهم للعمل الجماعي. تتحقق هذه القيمة بالمعرفة المنقولة والحكمة الجماعية التي تكتسبها المنظمة. عندما تكون قنوات التواصل ضعيفة تتفرق المعرفة وتضعف ويتفاوت الفهم ويتردى، وينعكس بكل تأكيد على الأداء، حتى تصل المنظمة إلى مرحلة النزاعات والتحارب، فتصبح حينها قيمة الأجزاء مجتمعة أضعف من قيمتها منفردة. وهذه خسارة كبيرة جدا لأي منظمة.
بكل تأكيد تقع مسؤولية التنبه والمعالجة هنا على القادة، إذ إن ضبط سير أعمال المنظومة بأنظمة المحاسبة الفعالة وتصميم وإدارة الثقافة المنشودة وتحسين فاعلية التواصل وتحفيز الإبداع وإيجاد الأجواء الإيجابية كفيل بالحد من عدوى الفشل والتقليل من آثاره. هذا يحول الفشل إلى قاعدة من قواعد النجاح، فالفشل الذي نتعلم منه فشل ثمين جدا، المهم ألا يتحول إلى عدوى خطيرة لا يستفيد منها أحد.