التلوث من مصانع المضادات .. خطر يهدد الصحة العامة
عندما قرر بعض العسكريين المخضرمين في الهند الحريصين على الشأن العام فحص جودة المياه في نهري سيرسا وسوتليج في ولاية هيماشال براديش الشمالية، إحدى مراكز صناعة الأدوية في البلد، توصلوا إلى اكتشاف مقلق: العينات المأخوذة بالقرب من مصانع الأدوية كانت ملوثة بتركيز عال من بقايا المضادات الحيوية، ومن بينها سيبروفلوكساسين وأوفلوكساسين وأزيثروميسين.
كان هذا ما توصلت إليه محكمة ناشونال جرين في الهند، التي تحكم في القضايا البيئية، عندما طلبت منظمة "منبر المحاربين القدامى للشفافية في الحياة العامة"، المكونة من ضباط عسكريين متقاعدين، تقييم المشكلة.
تسلط القضية الضوء على مصدر قلق متزايد بين هيئات الرقابة البيئية والصحية، والجهات التنظيمية، ومجموعات الأدوية نفسها: أن أحد أسباب مقاومة المضادات الحيوية حول العالم هو بقايا الأدوية من مصانع هذا القطاع.
تعد الهند، إلى جانب الصين، الآن واحدة من أكبر منتجي الأدوية في العالم، إذ تمثل نحو خمس سوق الأدوية الجنيسة في العالم، وهي رائدة في مجال تصنيع المضادات الحيوية.
باعتبارها أكبر البلدان من حيث عدد السكان في العالم، فهي أيضا مستهلك أساس للمضادات الحيوية. لكن، نظرا لأن المضادات الحيوية تعطى بشكل روتيني دون وصفة طبية وبدون إرشادات مناسبة، أصبحت الهند واحدة من البلدان التي تعد في مركز الاهتمام المتزايد بمقاومة المضادات الحيوية وظهور "البكتيريا المقاومة للأدوية".
وصفت منظمة الصحة العالمية مقاومة المضادات الحيوية بأنها من أكبر عشرة تهديدات للصحة العامة على مستوى العالم. وجدت دراسة أجريت العام الماضي أنه في 2019، كانت مسؤولة عن 1.27 مليون حالة وفاة فضلا عن ارتباطها بخمسة ملايين حالة وفاة.
لذلك، في محاولة لاحتواء مقاومة المضادات الحيوية، تدرس الحكومات، بما في ذلك الهند، بشكل متزايد قضية التلوث من المضادات الحيوية الموجود في مخلفات المصانع السائلة، إن لم تبدأ بتنظيمها بعد. في الوقت الحالي، تتولى شركات الأدوية زمام الأمور بنفسها، حيث تتكاتف بعض الشركات المنتجة البارزة لتحقيق التنظيم الذاتي.
إن مخلفات المصانع ليست المصدر الوحيد لمقاومة المضادات الحيوية، ولا حتى المصدر الأول. ما زال الإفراط في استخدام المضادات الحيوية وإساءة استخدامها من الناس يمثلان مشكلة في البلدان ذات أنظمة الرعاية الصحية المرهقة، مثل الهند. غالبا ما تكون علبة المضادات الحيوية من الصيدلي في الجوار -حتى لو كان الدواء الخطأ أو الجرعة الخطأ- بمنزلة حل سريع بدلا من الاستشارة الطبية، أو الحلول الأخرى التي قد تمنع المرض، من النظافة المناسبة إلى اللقاحات.
إن الزراعة عامل رئيس آخر في مقاومة المضادات الحيوية، وفقا لخبراء. وذلك لأن المضادات الحيوية المستخدمة على الماشية أو التي يتم رشها على المحاصيل غالبا ما تستخدم بكميات كبيرة بما يكفي للتأثير على البكتيريا في البيئة المحيطة، ما يزيد من خطر تحول هذه البكتيريا إلى مقاومة للأدوية.
يقول جيمس أندرسون، رئيس تحالف أيه آر إم الصناعي، الذي تم تشكيله في 2016 لمحاولة مكافحة مقاومة الأدوية "هناك إجماع واسع على أن هذا تهديد كبير للغاية. إنه معنا اليوم، والجميع قلقون من أن الأمور ستزداد سوءا".
في الهند، اتضحت المخاطر التي تشكلها مقاومة مضادات الميكروبات -مصطلح يشمل مضادات الفطريات وكذلك المضادات الحيوية- في 2021 من خلال تفشي داء الغشاء المخاطي، وهو عدوى قاتلة تسمى عموما الفطريات السوداء. يقول الخبراء "إن انتشار المرض سلط الضوء على التفاعل بين مقاومة الأدوية وتحديات الصحة العامة الأخرى"، بما في ذلك الاستخدام غير المناسب للمضادات الحيوية، والعدوى المكتسبة من المستشفيات والعدوى المصاحبة، ونقاط الضعف في البنية التحتية للرعاية الصحية في الهند.
بصرف النظر عن تعريض الصحة العامة للخطر، تثبط مقاومة المضادات الحيوية شركات الأدوية عن تطوير أي عقاقير جديدة. ليس من المنطقي من الناحية التجارية الاستثمار بكثافة في الأدوية التي سيكون وقتها في السوق محدودا.
توضح فاطمة رفيقي، مديرة برنامج الأبحاث في مؤسسة أكسيس تو ميديسن "يكلف تطوير مضاد حيوي جديد مليار دولار ويستغرق ما لا يقل عن عشرة أعوام. تحتاج الشركات وشركاؤها في مجال البحث والتطوير إلى الاستثمار بكثافة لتطويره وتسويقه، لكن عندها لن تتمكن من تسويقه بكميات كبيرة وتحقيق عوائد على الاستثمار، حيث إن الاستخدام الحذر مطلوب".
مع تزايد الوعي بالمشكلة، تبنت الحكومة الهندية في 2017 خطة عمل وطنية لمقاومة المضادات الحيوية، تضمنت تعزيز المراقبة، وتحسين الوقاية من العدوى ومكافحتها، و"الأنشطة التعاونية" للسيطرة على هذه الظاهرة.
ثم في 2019، أطلقت مشروع قانون كان سيجعل منها أول بلد في العالم يحد من كمية المضادات الحيوية في نفايات مصانع الأدوية. لكن بعد المشاورات العامة، اختفت قيود معينة من القواعد النهائية التي تم نشرها في 2021.
في الاتحاد الأوروبي وبلدان أخرى، على نحو مشابه، هناك قوانين تحد من التلوث من الشركات المصنعة للأدوية، لكن لا توجد لوائح تنظيمية تضع قيودا على انبعاثاتها من مكونات دوائية نشطة محددة. مع ذلك، تحاول بعض شركات الأدوية أخذ زمام المبادرة فيما يتعلق بهذه المشكلة.
وافق تحالف أيه إم آر الصناعي، الذي يعمل مع مؤسسة المعايير البريطانية، العام الماضي على معايير التصنيع التي تحد من الانبعاثات السامة التي تنتجها المضادات الحيوية في مصانع الأدوية، وطلب من الأعضاء تحقيق مستويات منخفضة "وإن لم تكن صفرية" من تركيز المضادات الحيوية في المخلفات السائلة لمصانعهم.
يضم التحالف الآن أكثر من 100 شركة ورابطة تجارية، ويقدر أن أعضاءه يمثلون 30 - 40 في المائة من التصنيع العالمي للمضادات الحيوية البشرية حول العالم. كما يضغط من أجل أن يصدر الجميع تصديقات، حتى لو كان من الصعب تطبيق المعيار.
يقول ستيف بروكس، قائد أعمال التصنيع في تحالف أيه إم آر الصناعي "لقد أدركنا أن هناك مشكلة تحتاج إلى حل وهي تحت سيطرة الصناعة. لا يريد الأعضاء اعتبارهم مسببين للتلوث".
"نريد أن نقود حلا نعتقد أنه سينجح، وإذا لم تستجب الشركات لذلك، فهناك تهديد يواجه عملها نفسه"، كما يضيف.