هل هناك ما سينعش إنتاجية المملكة المتحدة؟
على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، عصفت صدمات متتالية باقتصاد المملكة المتحدة. دفعت جائحة كوفيد - 19 بالمستهلكين للتسوق عبر الإنترنت، وموظفي المكاتب للعمل على طاولات مطابخهم، والعاملين الأكبر سنا إلى التقاعد. كما ارتفعت أسعار الطاقة، بينما أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إعادة كتابة قواعد التجارة والهجرة، ما أعاد تشكيل سوق العمل.
مع ذلك، تشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن هذا الاضطراب لم يحدث اختلافا كبيرا في مسار الإنتاجية المملكة المتحدة - وهو العامل الحاسم الذي سيحدد مستويات المعيشة على المدى الطويل.
أظهرت الأرقام التي نشرها مكتب الإحصاءات الوطنية الأسبوع الماضي أن الناتج لكل ساعة عمل، وهو المقياس الحيوي لإنتاجية العمل، كان أعلى 2.1 في المائة من متوسطه لعام 2019 في الربع الأخير من 2022.
وفرت البيانات أول تصور موثوق نسبيا لكيفية أداء إنتاجية المملكة المتحدة في أعقاب الجائحة، حيث كانت الأرقام السابقة مشوشة بسبب إغلاقات كوفيد وبرامج دعم الوظائف.
وتشير تلك البيانات إلى أن الاتجاه الضعيف الذي أثر في مستويات المعيشة في المملكة المتحدة منذ الانهيار المالي العالمي في 2008 و2009 لم يتغير بشكل أساس. وهو ما يعد مفاجأة، نظرا إلى مدى تغير الاقتصاد والطريقة التي تعمل بها الشركات.
حذر صانعو السياسة في بنك إنجلترا ومكتب مسؤولية الميزانية، هيئة الرقابة المالية المستقلة، منذ البدء بأن جائحة كوفيد تنطوي على خطر خفض الإنتاجية لأعوام. وقالوا إن الأزمة حرمت الشركات من فرص الاستثمار أو الابتكار في حين أن العاملين الذين فقدوا وظائفهم أو غيروها لن يتمكنوا من الاستفادة من مهاراتهم بالشكل الكامل.
كان خبراء اقتصاديون آخرون يأملون أن يكون للجائحة تأثير معاكس - تحقيق مكاسب إنتاجية غير متوقعة مع اضطرار الشركات الضعيفة إلى الإفلاس بسبب الركود ودفع من نجا منها إلى تبني تكنولوجيا وممارسات بشكل أسرع مما كانت ستفعل لولا ذلك.
قال جرانت فيتزنر، كبير الاقتصاديين في مكتب الإحصاء الوطني: "هذه إحدى ألغاز الجائحة. عادة ما تؤدي الأزمات الكبرى إلى تغيير هيكلي كبير".
يمثل ضعف نمو الإنتاجية مشكلة كبيرة، نظرا لأساس المملكة المتحدة المتدني مقارنة بغيرها. تشير المقارنات الدولية إلى أن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا تنتج أكثر من المملكة المتحدة بنحو السدس لكل ساعة عمل.
قال فيتزنر أمام لجنة مجلس اللوردات الشهر الماضي، إن البلدان التي تتمتع بهذه الزيادة في الإنتاجية "يمكنها أن تتحمل معدلات ضرائب أعلى، ويمكنها تحمل تكاليف خدمات عامة أفضل، وربما يمكنها تحمل تكاليف مستوى معيشي أفضل".
من إحدى النظريات عن عدم تغير الاتجاه في الإنتاجية، هي أن الدعم المالي الحكومي الخاص بـ"كوفيد"، الذي حال دون إفلاس الشركات وأبقى العاملين على رأس عملهم، منع حدوث عملية "الدمار الخلاق". لكن اقتصاديين آخرين يقولون إن التفسير الأكثر ترجيحا هو أنه كانت هناك تغييرات إيجابية ومؤثرات تعويضية كبيرة - وأن النتيجة على المدى الطويل لم تأت بعد.
قال بارت فان آرك، رئيس برودكتيفيتي إنستتوت الممول من الحكومة البريطانية، شبكة للأبحاث: "إذا ركزت على أرقام نمو الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الكلي، فستغيب عنك تفاصيل الأمور". بالنسبة إلى كثير من الشركات، جلبت عمليات إغلاق كوفيد "ارتفاعا فوريا" في الإنتاجية، كما قال، لأنها أدت إلى اعتماد التكنولوجيات الحالية بين عشية وضحاها لعقد اللقاءات عبر الإنترنت أو التواصل مع فرق العمل أو مشاركة الوثائق.
من جانبه، قال جريج ثويتس، مدير الأبحاث في مؤسسة ريزولوشن فاونديشن الفكرية، إن النقص الذي أعقب ذلك في الموظفين يمكن أن يدفع الشركات إلى العمل بكفاءة أكبر، حتى لو لم تستثمر في الآلات التي توفر تكاليف العمالة.
هناك أدلة غير مؤكدة تدعم وجهة نظر ثويتس، إذ بسطت كثير من الحانات والمطاعم قوائم الطعام بسبب صعوبة توظيف الطهاة، بينما تقول شركات النقل إن نقص السائقين أدى إلى عمل أكثر تنظيما مع محال السوبرماركت.
لكن الشركات الفردية تكافح من أجل زيادة الإنتاجية في مواجهة الصدمات قصيرة الأجل والرياح الهيكلية الكبيرة المعاكسة. عادت الأعمال للتو في بعض القطاعات مثل الفنادق إلى طبيعتها، في حين تقلصت مكاسب الإنتاجية في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة بما في ذلك التصنيع في العام الماضي.
قال بول مورتيمر لي، زميل أبحاث في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، إن المملكة المتحدة اتخذت بمرور الوقت "خيار مجتمعي" للتركيز على القطاعات ذات النمو البطيء في الإنتاجية، بدلا من إنعاش التصنيع، الذي يمتلك إمكانات أكبر. لهذا، دخلت في الجائحة "بظروف موجودة مسبقا، باستخدام كوفيد كوسيلة للمقارنة"، على حد قوله.
كان من أكبر التأثيرات المعاكسة، دخول اللوائح التجارية في المملكة المتحدة حيز التنفيذ بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
كان بنك إنجلترا يقول دائما إن هذه الحواجز ستؤثر في الإنتاجية على المدى الطويل، لكنه الآن يعتقد أن التأثيرات بدت واضحة أسرع مما كان متوقعا في الأصل.
أدى كل من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكوفيد وصدمة أسعار الطاقة إلى إعاقة الشركات عن القيام بالاستثمارات في تكنولوجيا المعلومات والآلات والمعدات الأخرى اللازمة لتحسين أداء العاملين. أما بنك إنجلترا، الذي كان يعتقد سابقا أن نمو الإنتاجية سيتحسن، فلا يتوقع الآن أي تحسن قبل 2025.
قال ثويتس إن هذه مشكلات يمكن للوزراء معالجتها من خلال التفاوض على شروط أفضل للتجارة مع الاتحاد الأوروبي ومنح الشركات حوافز ضريبية دائمة للاستثمار، وكذلك من خلال مضاعفة جهود الحكومات المتعاقبة لإصلاح قواعد التخطيط وتعزيز مهارات القوى العاملة. "إن الجزء الأكبر من ذلك يخضع لسيطرتنا".
كما أعلن المستشار جيريمي هانت، في ميزانية الربيع التي طرحها، عن برنامج إعفاء ضريبي لمدة ثلاثة أعوام بقيمة 27 مليار جنيه استرليني يهدف إلى زيادة استثمارات الشركات، إضافة إلى تدابير تهدف إلى تعزيز القوى العاملة في المملكة المتحدة. لكن مكتب مسؤولية الميزانية كان يرى أنه ما لم يصبح الإعفاء الضريبي دائما، فإنه سيؤدي ببساطة إلى تسريع الشركات للاستثمارات. لن يغير ذلك كثافة رأس المال للاقتصاد، أو مسار الإنتاجية.
حتى دون تدخل الحكومة، يتوقع بعض الاقتصاديين انتعاشا في الإنتاجية عبر الاقتصادات المتقدمة مع بدء تأثير القوى التي أطلقتها الجائحة. ولغاية الآن، لا يبدو أن التغيير الأوسع نطاقا - وهو تبني العمل الهجين على نطاق واسع - قد ساعد الإنتاجية إلى حد كبير أو أضرها، مقاسا بالناتج لكل ساعة عمل.
لكن الدراسات الاستقصائية العالمية تشير إلى أن الناس يقسمون الوقت الذي يتم توفيره من التنقل للعمل ووقت الفراغ ومسؤوليات الرعاية، وهو ما ينبغي نظريا أن يعزز الإنتاجية على مقياس الإنتاج لكل عامل البديل.
وصف فيتزنر هذا بأنه "حالة نادرة حيث كان التغيير في ممارسات العمل إيجابيا لكل من العمال وأصحاب العمل"، مع تمتع أصحاب العمل "بقوة عاملة أكثر سعادة تعمل لساعات أطول قليلا".
عززت التقدمات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي الآمال في انتعاش أكبر للإنتاجية، الذي سيكون تحقيقه بطيئا، إنما قد يغير الاقتصادات الغنية.
قال فان آرك من معهد الإنتاجية: "الإنتاجية هي مقياس طويل المدى. إن التكنولوجيا موجودة. كما ستكون هناك قدرة على توليد المهارات، والاستمتاع بتوازن أفضل بين العمل والحياة. بعض الأمور السيئة يجب أن تختفي".