نساء خلدن لجسارتهن
استوقفتني قصص ثلاث نساء وردن في القرآن، ورأيت الحاجة إلى الكتابة عن سيرهن، كما وردت، والظروف التي مررن بها، والعبر التي تعنيها سيرهن، وأول هذه النساء أم النبي موسى -عليه السلام- حيث أوحى الله إلى قلبها أن تضع ابنها في التابوت، وتلقيه في نهر النيل تفاديا لبطش فرعون الذي كان يقتل الذكور من بني إسرائيل، ويا له من امتحان، وشدة، فكيف بها أن تلقي بابنها في النهر، وتعرضه للهلاك غرقا، فهذه هي النتيجة الحتمية وفق المنطق البشري القائم على الخبرة، فكيف برضيع لا يمكنه السباحة، والنجاة، ولنا أن نتصور الشعور القاسي، والتردد الذي تعانيه الأم بشأن مصير فلذة كبدها، إلا أن شعور الطمأنينة الذي قذفه الله في قلبها بنجاته، وعودته إليها بعد أن يسلم من القتل الذي فرضه فرعون على كل مولود ذكر، ولخوفها على ابنها أرسلت أخته تتحرى حوله، وتعرف مصيره بعد أن وصل إلى بلاط فرعون، وأصبح تحت رعاية زوجته التي اقترحت المحافظة عليه، وتربيته ليكون ولدا لهم.
نجاة موسى من قانون القتل الذي سنه فرعون تم بمعية الله، وحفظه له، وبشجاعة، وجسارة أمه حين ألقته في النهر متحدية بهذا الفعل مشاعر الأمومة، وكما نعلم تمت عودته إلى أمه بعد أن رفض الرضاعة من كل النساء، لينمو في حضنها، وتحت رعايتها، ليقوم بمهمة النبوة فيما بعد، وليكون خصما عنيدا لفرعون الكافر.
أما الشخصية الثانية فهي مريم ابنة عمران، فالموقف الصعب الذي مرت به يتمثل في حضور الملك لينفخ فيها من روح الله لتحمل في النبي عيسى -عليه السلام- ولما شعرت بالحمل غادرت مكان إقامتها بعيدا عن قومها، لتضع مولودها، وحيدة لا أحد بجوارها يدعمها، ويواسيها، ولذا قالت -عليها السلام- "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا"، ولعل مشاعر الحزن، والخوف من نظرات الناس إليها، واتهامها بالفحش تمثل مشاعر ثقيلة تؤرقها، إذ كيف تقنع أهلها، وقومها، ذلك أن شعور العيب، والخزي تمثل قوة اجتماعية ضاغطة في كل زمان، ومكان، وهذا ما حدث حين ذهبت تحمله واجهها قومها بالتهكم والتأنيب، "يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا".
رعاية الله، ومعيته لمريم نطق عيسى ليبرئ أمه مما يخالج القوم من مشاعر سيئة تجاه أمه، "قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا"، وهكذا تحولت معجزة نطق الرضيع إلى شهادة براءة لوالدته تكشف للقوم معجزة الحمل دون زواج ومعاشرة كما اعتاد الناس.
الشخصية النسوية الثالثة هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهو من أشد أعداء الإسلام آذى الرسول، وحاول خنقه ذات مرة، آمنت بالرسول، ورسالته، رغم أن بيئتها المنزلية بيئة معادية، وحرصت على طلب العلم، والتفقه بالدين، وكانت تمارس شعائر الدين بسرية، خشية من أهلها، ومن قريش، إلا أنها ضاقت ذرعا بهذا الوضع، لتقرر الهجرة إلى المدينة، واللحاق بالرسول -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- إلا أن توقيت الهجرة ليس مناسبا، لتعارضه مع شرط مجحف من شروط صلح الحديبية يلزم المسلمين برد كل من يأتي مهاجرا من مكة إلى المدينة، حتى لو كان مسلما، إضافة إلى الطريق، وما به من مشقة، وخطر لما فيه من هوام، وسباع، وقطاع طرق، ومسافة بعيدة تفتقد موارد الحياة من ماء، وغذاء، لكن عزمها قادها لتنفيذ رغبتها وتصل بصحبة قافلة من بني خزاعة، وبعد علم أهلها بهجرتها لحقها أخواها عمار، ووليد لاستردادها لتنزل آية تنجيها من العودة، "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار".
ما من شك أن النماذج النسائية الثلاثة السابقة تمثل مضرب الشجاعة والإقدام الذي حصل منهن في ظروف بيئية، واجتماعية، وأمنية، وسياسية يعجز عن تحملها كثير من الناس، ولذا حق لهن تخليدهن في قرآن يتلى إلى يوم الدين، ليكن نماذج تحتذى عبر الأجيال، خاصة إن تم تدريس مواقفهن لأجيال الأمة.