الحرف اليدوية .. حرب حقيقية على المواهب

الحرف اليدوية .. حرب حقيقية على المواهب

على طاولة عمل في إحدى ورش شركة هيرميس في إحدى الضواحي الشمالية الشرقية في باريس، يشير ليونيل برودوم إلى نماذج أولية لتصميمات جديدة لحقائب ذات إصدار محدود، تعمل عليها دار التصاميم الفرنسية الفاخرة.
هناك نسخة من طراز حقيبة كيلي الكلاسيكي بألواح خشبية مطلية، وحقيبة يد صغيرة مزينة بتصاميم غريبة من عوالم مختلفة -التي تباع بسعر 22 ألف يورو- وعدة نماذج أخرى، حيث يتم تصنيع الجلد إلى أشكال مستديرة باللون الأزرق اللامع والبرتقالي الباهت.
تعد هذه الورشة للأعمال بالجلد التي تقع في مجمع حديث شيد من الزجاج والأسمنت في بانتين، واحدة من 21 ورشة لدى شركة هيرميس في جميع أنحاء فرنسا، تعد المكان الذي تتحول فيه رؤية المصممين إلى منتجات.
قال المشرف على الورشة "تصل الفكرة كنموذج أولي، لكننا نعمل على تحسينها بحيث يمكن إعادة إنتاجها في كل مرة".
مثل الحقائب التي يصنعها، فإن الحرفيين البارزين مثل برودوم -الذي يعمل مع شركة هيرميس منذ ثلاثة عقود ويقدر أنه يعرف كيف يصنع 85 نموذجا مختلفا على الأقل- أصبحوا سلعة ثمينة بشكل متزايد.
بعد أعوام من النمو السريع، المدفوع بالطلب النهم من المستهلكين الصينيين، تواجه صناعة الرفاهية في أوروبا ضغوطا حادة في التوظيف للأعمال التي تشمل كل شيء من التصنيع إلى البيع بالتجزئة والإدارة.
قال بينيديكت إيبيناي، رئيس جمعية الصناعة كوميتي كولبير "غالبا ما تتطلب هذه الوظائف أعواما عديدة من التدريب، بعضها أكثر من عشرة أعوام (...) لكن غالبا ما ينظر إليها على أنها وظائف (لا ترقية فيها). وفي الوقت نفسه، نشهد اختفاء تدريجيا لبرامج التدريب الخاصة بهذه المهارات، مع إغلاق كثير من الفصول الدراسية بسبب عدم وجود عدد كاف من الطلاب".
يعد بناء فرق من الحرفيين ذوي المهارات العالية والحفاظ عليه تحديا خاصا للصناعة، حيث الاستعانة بمصادر خارجية من بلدان أخرى ليس خيارا بشكل عام بسبب الرغبة في الحفاظ على الجودة وطابع المنشأ، الذي يستخدم لتبرير أسعار المنتجات العالية على الأرفف. في حالة حقائب شركة هيرميس، توجد أحيانا قائمة انتظار قد تمتد إلى أعوام. يقضي حرفيو الجلود ما لا يقل عن 15 ساعة في صنع كل حقيبة يدويا.
الأجور سر محمي بشكل جيد، لكن شركة هيرميس قالت "إن أجور الحرفيين تبدأ أعلى بكثير من الحد الأدنى الفرنسي للأجور، ويمكن أن تشمل أسهما في الشركة على المديين المتوسط والطويل".
وأضافت الشركة أن "متوسط الأجر السنوي للحرفي في فرنسا هو 25,350 يورو"، لكن في شركة إل في إم إتش، فإن متوسط الأجور في هذه المهن أعلى بكثير من هذا المستوى. تعد البرامج التي يمكن للموظفين عبرها المشاركة في الأرباح مهمة جدا في كثير من دورها. تقدم شركة لوي فيتون، مثلا، لعمال الورش ما يعادل متوسط أجر 18 شهرا كل عام بفضل برامج تقاسم الأرباح.
وعلى سبيل المقارنة، يكسب موظف البنك نحو 14 ألفا و24 ألف يورو في المتوسط، وفقا لموقع التوظيف "جلاس دوور".
لكن في العقود الأخيرة، ابتعد الشباب في بلدان الإنتاج الرئيسة مثل فرنسا وإيطاليا عن المهن اليدوية والحرفية، ويتزامن هذا مع تقاعد الجيل القديم من الحرفيين.
يعد غياب الوعي بمجموعة الوظائف المتاحة في قطاع الرفاهية مشكلة أخرى، كما هي الحال مع التصور القائل إن بعض الوظائف -ولا سيما تلك المتعلقة بالأطعمة الفاخرة، والمشروبات والضيافة- تنطوي على ساعات طويلة، وأجور منخفضة ونطاق محدود للتقدم بعد مستوى معين.
في فرنسا، بقي ما معدله 20 ألف وظيفة مهنية باستثناء الخدمات والضيافة شاغرة كل عام على مدار العقد الماضي في قطاع الرفاهية، وفقا لهيئة كولبير. التخصصات التي تعاني أشد حالات النقص تشمل مصممي الأزياء، وصائغي المجوهرات، وحرفيي البضائع الجلدية، إضافة إلى فنيي الصيانة وسائقي الجرارات في المزارع.
في الوقت نفسه، فإن الطلب من الشركات كبير ومتزايد، وظفت شركة إل في إم إتش، أكبر مجموعة للبضائع الفاخرة في العالم يسيطر عليها الملياردير برنارد أرنو، 60 ألف شخص على مستوى العالم العام الماضي وتتطلع إلى توظيف 15,200 شخص في فرنسا وحدها هذا العام، من بينهم 3,500 عامل حرفي.
قالت شانتال جامبرل، رئيسة قسم الموارد البشرية العالمية للمجموعة "أود أن أكون قادرة على القول إننا ببساطة بحاجة إلى مزارعي محاصيل العنب، أو مصممي الأزياء، أو متخصصي تكنولوجيا المعلومات، لكن ما نحتاج إليه منتشر بشكل جيد عبر جميع وظائف إل في إم إتش".
تقوم كل من شركة هيرميس وشركة إل في إم إتش بحملات توعية في المدارس والكليات، على الرغم من أن "هيرميس" تعتمد أكثر على الكلام الشفهي لجذب المرشحين.
تعد شركة هيرميس فريدة من نوعها بين المجموعات الفاخرة الكبرى في فرنسا حيث تحتفظ بجميع منتجاتها داخل الشركة وكذلك برامج تدريب الحرفيين. على بعد فناء حديقة من ورشة النماذج الأولية في بانتين، يقضي نحو 50 متدربا من شركة هيرميس نحو 18 شهرا في تعلم حرفتهم -من درزة السرج إلى تثبيت المسامير الذهبية الصغيرة- في ورشة تعليمية قبل أن يتمكنوا من بدء العمل في الورش.
قال إيمانويل بومييه، مدير عمليات البضائع الجلدية في شركة هيرميس "من أجل الحصول على 250 إلى 300 حرفي إضافي سنويا، نحتاج إلى تدريب ما بين 450 إلى 500 حرفي".
في 1992، كان لدى الشركة 250 حرفيا في ورش عمل فوق متجر هيرميس الرئيس في باريس. وتمتلك الشركة اليوم 4,700 حرفي مصنوعات جلدية وحدها، موزعين على تسعة مواقع إنتاج في فرنسا، يضم كل منها ما يصل إلى ثلاث ورش ومدرسة تدريب.
قال بومييه "إن معظم المرشحين يتقدمون إلى برامج التدريب المهني مباشرة، لكن ملفهم الشخصي قد تغير على مر الأعوام. في السابق، كان الشباب البالغون من العمر 16 إلى 18 عاما يأتون إلينا مباشرة للتدرب، لكن عمليا لم تعد الحال كذلك. إذ شغل معظمهم وظائف أخرى أولا لبضعة أعوام قبل المجيء إلينا، ما يعني أنه قد يكون أقل مباشرة لكنه يعني أنه خيار أكثر وعيا".
على النقيض من ذلك، تختار مجموعات مثل إل في إم إتش وكيرينج -مالكة شركة جوتشي وسان لوران- العمل مع الشركات المصنعة الخارجية على بعض المنتجات والتعاون مع المدارس المهنية.
في شركة إل في إم إتش، بدأت المجموعة في بناء شبكة من مدارس التدريب الشريكة قبل عقد من الزمن، لكن "بحلول 2020 أدركنا أنه لا يزال هناك عدم كفاية في المواهب"، حسب قول ألكسندر بوكيل، مدير برنامج ميتيير دي اكسلنس "المهن المتميزة" في المجموعة، تسمية تشمل 280 نوعا مختلفا من الأعمال عبر الوظائف التجارية، والحرفية والخدمية وتمثل نصف اليد العاملة العالمية للمجموعة البالغ عددها 200 ألف.
قال "هناك حرب حقيقية على المواهب لأن منافسينا بحاجة أيضا إلى توظيف أعداد كبيرة (...) هذا يفيد الصناعة، لكن هناك بالتأكيد توترات في مجال التوظيف".
في سوق العمل الضيقة، تدرك مجموعات مثل إل في إم إتش أنها بحاجة إلى تلبية ظروف العمل والأجور، على الرغم أنها لا تكشف عن مقدار زيادة الأجور. قالت جامبرل "إننا في سوق موظفين حاليا (...) لذلك سنقدم الدعم بشروط، لكي نكون قادرين على المنافسة".
في محاولة للتعويض، شرعت شركات إل في إم إتش، وهيرميس وكيرينج في تنفيذ برامج توعية في المدارس والكليات. تحت لافتة لشركة إل في إم إتش معلقة خارج قاعة مدينة ريمس التي تعود إلى القرن الـ19، في منطقة شامبانيي في فرنسا، يقف طابور حول الساحة المرصوفة بالحصى حيث ينتظر نحو مائة شخص من مختلف الأعمار بصبر. هذا ليس طابورا للدخول إلى متجر ديور أو عرض أزياء، بل حملة توظيف، واحدة من خمسة أحداث من هذا المثيل خططت لها المجموعة حول فرنسا هذا العام، بعد حملة مشابهة في 2022.
في الداخل، يحاول موظفو شركة إل في إم إتش جذب المتقدمين إلى الوظائف وبرامج التدريب التي تراوح بين صناعة الساعات الفاخرة والضيافة، حيث أشارت جامبرل إلى أن الانخفاض في المرشحين كان "كبيرا جدا" في الأعوام الأخيرة. وقالت "إن العثور على مرشحين أقوياء للبيع بالتجزئة للمنتجات الراقية -الذي يتطلب مستوى عاليا من الاجتهاد، والمعرفة بعرض المنتجات والمعرفة بها- هو أيضا أمر صعب للغاية".
تستخدم سماعات الواقع الافتراضي لإطلاع مجموعة من المراهقين، والشباب والعاملين في منتصف حياتهم المهنية على يوم في حياة صانع مجوهرات في شركة ديور أو مندوب مبيعات في شركة لوي فيتون. ويجري الموظفون مقابلات سريعة ويشجع الزوار على ترك سيرهم الذاتية في صناديق مغلقة مصنفة حسب الأنواع المختلفة من الوظائف.
الهدف من التوعية هو المساعدة على كسر الفجوة بين الوظائف الحرفية والمهنية والمساعدة على تعويض نقص التعرض لهذه الوظائف في المدارس.
قال بوكيل "بالعودة إلى الثورة الصناعية، كان هناك انقسام بين المهندسين والحرفيين (...) كسر ونشأ تسلسل هرمي لم يكن موجودا من قبل. لا يزال هذا النوع من الرسائل موجودا: إذا كنت جيدا في المدرسة، فعليك أن تذهب إلى الجامعة للدراسة، وليس إلى وظائف يدوية".
"يمكن لشخص يبلغ من العمر 15 عاما أن يصف عادة نحو عشر وظائف، معظمها تلك التي قام بها آباؤهم ثم أشياء مثل لاعب كرة قدم ومؤثر في الإنترنت. لدينا 280 وظيفة للشرح بشأنها".
لكن إقناع عدد كاف من الشباب بالبدء في وظائف مثل الحرفيين ذوي المهارات العالية يظل تحديا. في مدينة ريمس، كانت ثلاث مراهقات يقمن بالقرب من منصة للتدريب على صناعة المنتجات الجلدية.
عند سؤالهن عما إذا كن سيتقدمن بطلب، بدت فتاتان غير متأكدتين. أما الثالثة، إيلي، 18 عاما، فقالت "إن الفرص المعروضة جيدة نوعا ما، إذا كنت تريد البقاء في وظيفة يدوية. لكنني سأدرس علم النفس في العام المقبل".

الأكثر قراءة