المكاتب الحديثة .. أماكن فظيعة لإنجاز أي عمل
لقد عملت بمفردي بسعادة 25 عاما. لكن هذا الشتاء، كان لا بد أخيرا من تجديد شقة عملي المتداعية والصغيرة في باريس - مساحتي الآمنة بعيدا عن الزوجة والأطفال. منذ كانون الثاني (يناير)، وأنا أدفع 358.80 يورو شهريا لاستئجار مكتب في مساحة عمل مشتركة تابعة لشركة وي وورك. لقد كانت تجربة رجل واحد لتسوية أحد نقاشات عصرنا، العمل عن بعد ضد المكاتب المشتركة. نتيجتي، المكاتب الحديثة أماكن فظيعة لإنجاز أي عمل.
لقد استقلت من وظيفة "فاينانشيال تايمز" في 1998، وذلك لأني كرهت المكتب في الغالب. كان المقر الرئيس لـ"فاينانشال تايمز" آنذاك هو مبنى كبير وقبيح ومكعب على جسر ساوثوارك في لندن، صندوق زجاجي مضاء لا تفتح فيه النوافذ. كنت أجلس هناك مرتديا بزتي الرسمية وربطة عنقي، وأعمل على نحو متقطع، لكن يقاطعني كل بضع دقائق زملائي الذين يمرون للتذمر من المدير أو نادي تشيلسي.
في الوقت الراهن، ربما أنا أحد آخر الذين يعملون في مساحات "وي وورك". يبدو أن الشركة، التي شارك في تأسيسها الخبير الطموح ذو الكاريزما الطاغية آدم نيومان، تقترب من نهاية رحلتها الطويلة والغريبة. انخفض تقييمها 99 في المائة تقريبا في أربعة أعوام، من 47 مليار دولار إلى 503 ملايين دولار، وهي مشغولة بإعادة هيكلة ديونها. غير أن "وي وورك" نشأت من نظرة ثاقبة أصيلة عن كيفية تحسين المكاتب، وذلك بتصميمها كالمقاهي. ظهرت النسخة الأصلية من "وي وورك"، "جرين ديسك"، في 2008 في بروكلين الرائدة العصرية، التي كانت آنذاك مليئة بالمقاهي التي يغمرها الضوء الطبيعي، ويسكنها أناس يرتدون ما يحلو لهم.
مكاتب "وي وورك" التي أستخدمها في باريس تتبع هذا التقليد. في الواقع، القهوة هنا مجانية "ربما أحد الأسباب التي جعلت وي وورك تخسر نحو 2.3 مليار دولار العام الماضي". الجميع تقريبا، باستثناء عمال النظافة، من العرق البيض ويرتدون ملابس فاخرة، وتسمع اللغة الإنجليزية بقدر الفرنسية. في أحد المواقع التي عملت فيها، يحضر بعض الناس كلابهم. عادة ما أكون الشخص الأكبر في الغرفة بنحو 20 عاما.
ثم هناك جانب المساحة، المكتظة لدرجة أنه يصعب إنجاز أي عمل. جزء من تحديث المكاتب منذ 1998، انخفضت مساحة كل عامل مكتبي في بعض المدن الأمريكية إلى النصف تقريبا خلال 20 عاما، وفقا لتقارير شركتي كوستار وكوشمان آند ويكفيلد العقارية. في المملكة المتحدة، ارتفع متوسط المساحة من 14.8 متر مربع لكل مكتب في 2001 إلى 9.6 متر مربع في 2018، وفقا للمجلس البريطاني للمكاتب. من المسلم به أن طفرة ما بعد كورونا في العمل من المنزل قد أوجدت وفرة من المساحات المكتبية على مستوى العالم، لكن هذا لن يدوم، الرأسمالية تمقت الفراغ، وستجد المكاتب الفارغة استخدامات أخرى.
"وي وورك" مزدحمة على وجه الخصوص، في الأغلب ما يكون هناك نحو عشرة أشخاص يجلسون على بعد عشرة أمتار مني. إنه لأمر مرهق أن يراك الأشخاص بلا انقطاع، وأن ينقطع تركيزك كل مرة يبدأ فيها شخص قريب منك في الدردشة. في الأيام التي قضيتها وحدي في شقة عملي، كنت أشعر بالراحة لدرجة أني في الأغلب ما أفكر، "هل الساعة السابعة مساء بالفعل؟ يجب أن أعود إلى المنزل". يوم عملي الإنتاجي في "وي وورك" أقصر، بحلول الساعة السادسة مساء أشعر بأني منهك. عندما اشتكيت من هذا لابنتي، أجابت، "لم تجرب المدرسة الثانوية. على الأقل لا أحد في وي وورك يهتم بمظهرك".
هذا صحيح، قلما تحدثت إلى أي أحد هناك. شعار حياتي هو أن الحل لمعظم المشكلات البشرية هو سدادات الأذن، ولا شيء يمكن أن يحثني على حضور "الساعات السعيدة" في مقصف الموظفين "اختلاط الموظفين وتعرفهم على بعض". لا شك أني كاره للبشر على نحو غير عادي، لكن اتضح أن قليلين من يلتقون بأشخاص في "وي وورك". في 2017، أصدرت الشركة تقريرا داخليا بعنوان "هل أعضاؤنا أصدقاء؟" وخلصت، ببؤس، إلى أنهم لم يكونوا كذلك، "مجتمع في وي وورك أقل ترابطا مما كنا نتخيل. العضو العادي في وي وورك ليس مرتبطا اجتماعيا بالآخرين في المبنى. كانت هذه النتيجة مفاجئة بصورة لا تصدق لأنها تتناقض كثيرا مع خطابنا عن قوة مجتمعنا". من واقع خبرتي، الأشخاص الوحيدون الذين يدردشون في "وي وورك" هم زملاء من الشركة نفسها، في الأغلب يضيعون وقت بعضهم بعضا.
لحسن الحظ، أصبحت شقة عملي جاهزة الآن - أشكر البنائين. توصيتي للعاملين في المكاتب، إذا ترك لك صاحب العمل الخيار في هذا الشأن، وعندك مساحة عمل في المنزل أكبر وأكثر هدوءا من المكان المعتاد في مكتب حديث، فما عليك سوى البقاء في رداء النوم واهجر الذهاب إلى العمل يوميا. لا عجب أن 35 في المائة من العمال الأمريكيين الذين يمكنهم العمل من المنزل يفعلون ذلك الآن دائما، في حين يرغب كثيرون فيه، وفقا لبيانات "بيو ريسيرتش". المكتب المشترك غير مناسب لأي عمل يتطلب التركيز. إذا وجدت أن المحادثة مع الزملاء بين الفينة والأخرى ضرورية جدا، فلا تأت إلا عندما يتعين عليك ذلك، وتجنب المكتب، والتق بهم في مقهى حقيقي.