أزمة هوية سويسرية .. هل تخلفها عن الركب؟
كتب فريدريش دورينمات، الكاتب المسرحي الوطني السويسري، "لا أحد يصبح قاتلا بسهولة أكثر من الوطن".
في نهاية الأسبوع الماضي، قتل البلد واحدا من أبنائه. في مؤتمر صحافي عقد على عجل في العاصمة برن مساء الأحد، أعلنت الحكومة والجهات التنظيمية انتهاء مسيرة بنك كريدي سويس التي استمرت 167 عاما كأحد أعمدة المجتمع السويسري. كان البنك الضخم، المحرك الصناعي المعجزة في سويسرا، الذي أضعفته أعوام من الفضائح، من المقرر أن يستحوذ عليه منافسه الأكبر بنك يو بي إس.
كان الحديث يدور حول تجنب انهيار مالي لا يخطر على البال. وكان هناك القليل من الوقت للعاطفة. قالت كارين كيلر-سوتر، وزيرة المالية السويسرية، إن الحكومة "تأسف لعدم تمكن بنك كريدي سويس من التغلب على صعوباته".
في مقر البنك المفلس، تومض شمعة واحدة مع نسيم الفجر صباح الإثنين مع مجموعة صغيرة من الزهور بجانبها - رموز حداد موضوعة على جانب واحد من مدخل ليشثوف، المقر الرئيس لبنك كريدي سويس في باراديبلاتز في زيورخ.
على مدار الـ72 ساعة الماضية، كان التكنوقراطيون، والمصرفيون والمنظمون في العاصمة يتنقلون من وإلى بيرنرهوف - مكتب وزارة المالية، على جرف مرتفع فوق نهر آري - لإيجاد حل. لكنهم كانوا يعملون في ظل موجز صارم، لن تستخدم الدولة أموال دافعي الضرائب للحفاظ على استقلال البنك. صدمت الصفقة كثيرين حول العالم وأثارت تساؤلات حول استقرار النظام السويسري الذي يسوق نفسه بناء عليه.
عادة في أوقات الضغوط الاقتصادية الدولية، تعد سويسرا ملاذا، لكن مع ارتفاع الذهب والين الياباني مقابل الأصول الأخرى هذا الأسبوع، تخلى متداولو العملات عن الفرنك بأسرع وتيرة في عامين.
لكن المشكلات الحالية التي يعانيها البلد ليست مالية فحسب. فقد قال سكوت ميلر سفير الولايات المتحدة في برن، في وقت سابق من هذا الشهر، "تعيش سويسرا أخطر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية"، قال في مقابلة مع صحيفة "إن زد زد" إن الحرب الروسية الأوكرانية أنهت أسطورة الحياد السويسري.
منذ شهور، زادت الدول المجاورة لسويسرا وأقرب شركائها الاقتصاديين من الضغط على برن بسبب رفضها الثابت أن تكون جزءا من أي مساعدة عسكرية لكييف. لقد بدأ الضغط يتسم بالحقد.
يقول توماس بورير، الدبلوماسي السويسري السابق الذي وضع سياسة الحياد الحالية في البلد، "لقد ساعد الحياد السويسريين لقرون في هذه القارة التي مزقتها الحرب. لكن لم يعد مناسبا بعد الآن". ويقول إن سويسرا محاطة الآن بالأصدقاء، وهي متورطة بشدة معهم اقتصاديا.
"إذا كنت محايدا، فالأمر يشبه الذهاب إلى جنازة، حيث يبكي الجميع وأنت تقف وتسأل ما المشكلة؟ لا أحد يحبك".
مع وجود وجهين رئيسين للهوية السويسرية في موضع تساؤل - دورها كجهة مصرفية عالمية معزز بحيادها الجيوسياسي - يقول بورير، "إننا في موقف لا نحسد عليه. يجب أن ندرس تصرفاتنا جيدا".
مركز الصناعة المصرفية
حتى مع تردد أصداء الأزمة في باراديبلاتز، لا يوجد حتى الآن سوى القليل من الأدلة التي تشير إلى أن البنوك السويسرية الأخرى من الدرجة الأولى - التي تقدم خدماتها إلى أثرياء العالم - ستعاني.
بل على العكس تماما، فكثير منها الآن تستفيد من إخفاقات منافسيها بعناية، وتتطلع إلى توظيف موظفين موهوبين واصطياد العملاء المربحين. شهد جوليوس باير، ثالث أكبر بنك في سويسرا من حيث الأصول سابقا، والثاني الآن، ارتفاعا في سعر سهمه 13 في المائة هذا الأسبوع.
يقول هوبرت كيلر، الشريك الإداري الأول في بنك لومبارد أودييه، أحد أقدم البنوك المقرضة في سويسرا، "هذا وضع مؤسف للغاية، ولا شك في ذلك. لكن من وجهة نظري، فإن الوضع ليس بهذا التشاؤم. لقد تم بناء قوة سويسرا كمكان مالي في العالم على مدى عقود وقرون. لا نزال المركز الأول لإدارة الثروات العابرة للحدود".
يشير كيلر إلى الشكوك التي كانت لدى كثيرين حول مستقبل سويسرا عندما تم الطعن في سريتها المصرفية بعد الانهيار المالي
لـ2008. "تشارك البنوك السويسرية الآن المعلومات الهيكلية حول أصول العملاء الأجانب مع الجهات التنظيمية الأجنبية، لمنع الاحتيال الضريبي". "اعتقد المنافسون في الخارج أن البنوك السويسرية لن تبقى بعد ذلك، لكنه ثبت أنهم مخطئون".
بالنسبة إلى كيلر، وكثيرين آخرين في سويسرا، فقد نشأت مشكلات بنك كريدي سويس في النهاية من كونه أقل "سويسريا" - توجهه نحو الخارج وفشله في تبني ثقافة مصرفية أجنبية، ومحاكاة المنافسين في وول ستريت عبر السعي وراء مخاطر أعلى وعوائد أعلى.
يقول مارك بيث، باحث قانوني ومؤسس معهد بازل للحوكمة، "وجد بنك كريدي سويس نفسه يلعب في دوري مختلف وأحيانا كان يلعب بشكل سيئ للغاية. في مجال الصيرفة الاستثمارية كانوا من الهواة".
لكن المخاوف في الخارج قد لا تكون مصدر القلق الوحيد للقطاع المصرفي. يعد بنك كريدي سويس جزءا من قصة الهوية الوطنية الحديثة في سويسرا. ومع الانتخابات العامة في تشرين الأول (أكتوبر)، أصبحت الصناعة المصرفية مصدر قلق سياسي.
بالنسبة إلى حزب الشعب السويسري اليميني الشعبوي - الحزب الأكبر في البرلمان الفيدرالي للبلد - فإن تراجع البنك، وعملية الإنقاذ المخزية بالنسبة إليه التي أدت إلى دمجه مع بنك يو بي إس، هما من أعراض الخضوع للمصالح الأجنبية.
لكن بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي ذي الميول اليسارية، ثاني أكبر حزب، فهي حكاية عن عدم كفاية التنظيم والجشع. يقول سيدريك ويرموث، الرئيس المشارك للحزب، "لقد حاولنا فرض لوائح تنظيمية واضحة وأكثر صرامة منذ أعوام، لكن الأغلبية الليبرالية اليمينية في البرلمان رفضت ذلك على الدوام. على العموم علينا أن ندرك أنه قد ثبت مرة أخرى أن الأطروحة الليبرالية السائدة للأسواق المالية العقلانية مجرد هراء".
يشير إلى أن انهيار بنك كريدي سويس يمكن أن يكون نقطة تحول. "إننا نشهد اللحظة التي أصبح فيها القطاع المالي الذي كان ذا فائدة كبيرة لسويسرا يمثل عبئا كبيرا. في الماضي، ساعدت الأزمات العالمية سويسرا على تعزيز نموذجها - فقد كنا ملاذا آمنا. حرب أو أزمة، مهما حدث، يمكنك جلب أموالك هنا. لم يتغير هذا في 2008، لكن ربما تغير الأسبوع الماضي على مستوى أساسي جدا".
مسألة الحياد
المصرفية ليست المجال الوحيد الذي أصبحت فيه القيم السويسرية الراسخة منذ أمد طويل موضع تساؤل فجأة.
إذ كانت عقيدة الحياد لسويسرا حجر أساس في سياستها الخارجية لعدة قرون، ولم تشارك في حرب منذ 1815. لكن الحفاظ على هذا الموقف أصبح أكثر صعوبة في عصر الوحدة الأوروبية والاعتماد الاقتصادي المتبادل.
يقول مايكل أمبول، وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية، "كان السؤال حول معنى الحياد موجودا دائما، في الخلفية. لكنه خرج إلى المقدمة بسبب هذه الحرب في أوكرانيا - ومن الواضح للطبقة السياسية والمجتمع على حد سواء أننا بحاجة إلى توضيح ذلك".
في خضم هذه المشكلة هناك سؤال حول شحنات الأسلحة، الأسلحة المصنوعة في سويسرا التي كانت تصدر إلى الدول المجاورة منذ أعوام تتطلب الآن إذنا من برن لإعادة تصديرها.
على مدى أشهر، رفضت برن السماح لدول مثل ألمانيا بإرسال مخزوناتها من الذخيرة السويسرية إلى كييف. نما الإحباط في برلين، وزاد أعضاء الناتو الآخرون من الضغط. وكانت الرسالة التي صدرت عن السفير الأمريكي ميلر في وقت سابق من هذا الشهر أقوى إشارة لسويسرا حتى الآن.
تظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية السويسريين - 55 في المائة - يدعمون إعادة تصدير الأسلحة. لكن السياسيين منقسمون بشكل حاد. ووفقا للتصميم الدستوري، فلا شيء يتغير في سويسرا دون إجماع. يقوم حزب الشعب السويسري بحملة جادة بشأن هذه القضية باعتبارها مسألة في صميم ما يعنيه أن تكون سويسريا.
لكن ما يجعل الأمور فريدة هو أن برن قد طبقت حتى الآن جميع العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. في الواقع، كانت سويسرا من أوائل الدول التي وضعتها موسكو على قائمتها الرسمية للدول "غير الصديقة" العام الماضي.
في غضون ذلك، يحذر المصرفيون من أن العملاء من دول معينة - وفي مقدمتها الصين - قلقون بشكل متزايد بشأن ترك أصولهم في سويسرا. ويقول أحدهم إن هذا يترك البلد مع جميع سلبيات الحياد وجوانب إيجابية أقل.
يقول بورير، "الحياد موجود في كتبنا وفي جيناتنا، لكن هذا لا يعني أنه لا يجب علينا التكيف. علينا ذلك".
تكيف أو ارفض
إن أولئك الذين يشعرون بالقلق من تآكل الطابع الوطني لديهم فيض من الاستعارات للإشارة إليها.
في وقت سابق من هذا الشهر، خسرت سويسرا استئنافا أمام المحاكم الأمريكية لمنح جبنها الشهير جرويير - من الوادي الذي يحمل الاسم نفسه في مقاطعة فريبورج - مؤشر جغراف محمي.
كما لن تعرض ألواح شوكولاتة توبليرون جبل ماترهورن على عبواتها بعد أن أعلنت شركة مونديليز العالمية للأغذية أنها ستنقل تصنيعها من سويسرا إلى سلوفاكيا.
حتى الرياضة الوطنية التي يعتز بها تعاني. حيث شهدت جبال الألب السويسرية هذا الشتاء واحدا من أقل تساقط للثلوج على الإطلاق، إذ تغطت بعض سفوحها بالطين والأعشاب الميتة في منتصف كانون الثاني (يناير).
كما هو الحال مع بنك كريدي سويس، وكما هو الحال مع الحياد، قد يكون القاسم المشترك هو كيفية تكيف سويسرا مع عالم سريع التغير، أو أن تفقد قبضتها.
يقول بيث إن بنك كريدي سويس كان أحد نقاط الشرخ، لكن قد تكون هناك نقاط أخرى. ويشير إلى العدد الهائل من تجار السلع السريين المقيمين في سويسرا والذين يبدو أنهم يعملون بشكل مستقل عن القوانين. وهو يعتقد أن "سويسرا لا يمكن أن تستمر في العمل دون رقابة".
لكن على مدى أعوام من الاستقلال المطلق، لم يثبت البلد ونموذجه شيئا غير المرونة.
يقول المؤرخ السويسري توماس مايسن، "تميل وسائل الإعلام ومعاصروها إلى المبالغة في تقدير الأخبار. ففي خريف 2001، شهدنا أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، وهيجان في تسوغ مع مقتل 14 سياسيا، وكارثة حريق في نفق جوتهارد للسيارات، وتحطم طائرة كروس أير وإيقاف شركة سويس أير".
إن إفلاس شركة الطيران في تشرين الأول (أكتوبر) "تم تفسيره على أنه نهاية رمزية لحقبة سويسرا المسالمة والناجحة".
دعت السمات التي تحبس الأنفاس للتفكير في الزوال أو التدهور البطيء للأمة. لكن ثبت العكس. استمرت حرية سويسرا وأمنها، ونمت ثروتها، الاقتصاد السويسري، الذي يبلغ إجمالي الناتج المحلي فيه أكثر من 800 مليار دولار سنويا، أصبح الآن أكبر بمرتين مما كان عليه في ذلك الوقت.
يقول أمبول إنه إذا كان هناك درس في النقاش الدائر حول حرب أوكرانيا، فهو أن التمسك بحقائق قديمة بينما يتغير العالم يخاطر بترك سويسرا وراء الركب. "علينا التكيف مع الحقائق الجديدة".