الماء.. أهم فاعل في تشكل الحضارات الإنسانية

الماء.. أهم فاعل في تشكل الحضارات الإنسانية

يغطي الماء 4/ 3 كوكب الأرض، ويعد المكون الرئيس لأجسادنا، إذ يتكون مما تصل نسبته إلى 70 في المائة من الماء عند الولادة، ونحو 60 في المائة في مرحلة البلوغ. أكثر من نصف هذا الماء يوجد داخل الخلايا، بينما يدور الباقي في الدم ليغمر الخلايا والأنسجة. تحتوي العظام مثلا على 22 في المائة، ونحو 75 في المائة من الدماغ ماء، ويبقى الدم السائل الأكثر حيوية لأنه يتشكل بنسبة أكثر من 90 في المائة من الماء.
تفيد هذه الأرقام في فهم استحالة عيش الإنسان أياما معدودات دون ماء، مقابل قدرته على العيش 40 يوما متواصلة بلا طعام، اعتمادا على ما يحتويه الجسم من دهون. تفسير ذلك ببساطة هو أن قلة الماء في الجسم يعني انخفاض حجم الدم، ما يحفز منطقة "تحت المهاد" في الدماغ على إطلاق إشارات تفيد الإحساس بالعطش، قبل بلوغ درجة الإصابة بالجفاف التي تتحقق بفقدان 4 في المائة من الماء، فيما تفضي خسارة 15 في المائة منه إلى موت الإنسان.
الاعتماد الحاسم على الماء لاستمرار جميع مظاهر الحياة على كوكب الأرض، جعل تلقي الشعوب والأمم، على مر التاريخ، لهذه المادة الحيوية، محاطا بهالة من القداسة والرمزية في الوعي الجماعي، امتزج في تشكيلها المعطى الديني بالعقلاني والطبيعي بالأسطوري. فتنوعت التمثلات وتعددت، في مختلف الحضارات، باختلاف منظور أصحابها إلى أساس الحياة ومورد الخصوبة وأصل الكون.
من يقينيات التاريخ أن الماء كان أهم فاعل في تشكل الحضارات الإنسانية، فعلى ضفاف الأنهار نشأت أولى المستوطنات البشرية، لدرجة أن مؤرخين عدوا أن أعرق الحضارات في العالم كانت "حضارات الأنهار". بدءا من حضارة دجلة والفرات، أي ما بين النهرين، التي وصفت بأنها "مبتدأ الحضارة الإنسانية". ثم حضارات نهر النيل المتعددة، من جنوبه إلى شماله. وفي الهند، أسست حضارة عريقة على ضفاف نهر الغانج، وكانت بواكير الحضارة الصينية على النهر الأصفر. وانتشرت أقدم الحضارات في إفريقيا على ضفاف نهر الكونغو، وكذلك كان الأمر على ضفاف المسيسيبي مهد حضارات القارة الأمريكية.
وحضر الماء بثقل كبير في مختلف الديانات، وصلت قيمته أحيانا درجة التقديس، لا لذاته وصفاته الحيوية فقط، وإنما لما يحمله من دلالات ما ورائية. فهو بالنسبة إلى "اليهود والنصارى والمسلمين" أصل الوجود وأساس النقاء، فطقوس الطهارة بالماء بمنزلة تنقية وتطهير للمؤمن في الحياة وعند الموت "غسل الجنازة". وحدث أن تحول - في المعتقد اليهودي - أداة للموت والعقاب بالنسبة إلى المذنبين (الطوفان)، ما يجعله لدى أتباع الديانة الموسوية متقلبا، بين حال وآخر، حتى بات الماء لديهم رمز التناقضات.
بعيدا عن قدسية الماء لذاته، اعتبارا لوظيفته الأساسية في الحياة، يمكن لعوامل بشرية خارجية مثل القراءة على الماء أو النفخ فيه أو غير ذلك، ما يضفي على الماء آفاق روحانية أوسع بكثير من حدوده الطبيعية والفيزيائية. تصبح هذه المادة الحيوية في مخيلة الأتباع والمريدين، بفضل تلك العملية، محلولا للتداوي ووسيلة للعلاج والاستشفاء. وقد يكتسب الماء تلك القوة، في بعض الأحيان، استنادا إلى عوامل جغرافيا، كما هو الحال مثلا مع مياه "المنابع الصحية" و"العيون الاستشفائية" وكذا "الآبار العلاجية"...
يحضر الماء في الثقافة الشعبية، بسرديات خاصة وغرائبية، تتشابه وتختلف حسب العوامل المفرزة لها. فنزول المطر مثلا يرتبط بممارسات فولكلورية، تتعلق بفعل الاستسقاء، بتسميات عديدة من قبيل، طقس "أم الغيث" في دول عربية، أو "روب توغ" في شرق إفريقيا، ويعرف في شمال إفريقيا باسم "تاغنجا"، ولدى الليبيين "أم قطمبو"، وفي موريتانيا "احتفال السحاب"...
الماء رفيق الإنسان في الأفراح والأحزان، فطقوس الزواج في المناطق الأمازيغية في المغرب مثلا، مشهورة بيوم الساقية "إس ن تاركا"، وفيه يتوجب رش العروس بماء العين أو الاستحمام في النهر. وتدريجيا، شاع هذا الطقس الاحتفالي الممهد لمراسيم الزفاف في باقي مناطق البلاد، فأطلق عليه اسم "يوم اغتراف الماء" أو "يوم الارتواء". ومن طقوس الموت لدى اليهود المغاربة، سكب جميع الأواني التي تحتوي على الماء في البيت، وبيوت الجيران الأقربين، حتى يعوض بماء آخر عذب، لكون المعتقد اليهودي يقول إن ملك الموت عزرائيل سيغسل فيه سيفه إذا تم الاحتفاظ به.
يعد يوم عاشوراء في مناطق سوس مناسبة طقوسية، يشكل الماء أساس الاحتفال بها، فالاعتقاد بما ورائيات الماء في هذا اليوم كثيرة، تحدث العلامة المختار السوسي عن بعضها فقط، حين كتب عن كيفية إحياء سكان بلدته لهذا اليوم قائلا، "واعتاد سكان إيليغ أن يبخروا منازلهن صبيحة يوم عاشوراء... كما يتم استقاء الماء من الآبار ظنا أنها تستمد ماءها من بئر زمزم في ذلك الوقت، فيرش بذلك الماء جميع زوايا الدار".
ما أكثر المعتقدات التي تقدس الماء في ثقافات الشعوب، وتحيط منابعه بأسرار وأساطير تبلورها في طقوس، تضفي على الماء طابعا رمزيا متميزا. فهذه المادة كان دوما، وقبل كل شيء، مرادفا للحياة في نظر الإنسان. فضلا عن امتلاكه، بحسب خبراء في جامعة هارفارد، قدرة "المذيب العالمي" الذي يستطيع إذابة أي شيء تقريبا، ما يجعل قوته لا تقدر بثمن. ويبقى من المواد النادرة في الطبيعة التي توجد في الحالات الفيزيائية الثلاث (السائلة والصلبة والغازية) في تكيف فريد مع نطاق درجات حرارة الأرض.
اعتبارا لهذه الأهمية، في الماضي والحاضر والمستقبل، حددت الأمم المتحدة 22 آذار (مارس) يوما عالميا للمياه، لنشر الوعي بهذه المادة الحيوية التي أضحت اليوم موضع تهديد، بفعل استنزاف والتبذير المتواصلين، بعدما فقدت جانبا من الهالة والطقوسية التي حظيت بها في حضارات وشعوب غابرة. ويتوقع أن تكون سببا للصراع مستقبلا، فأول ما تبحث عنه الدول المستكشفة للفضاء هو الكواكب التي تحتوي على المياه.

الأكثر قراءة