رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الاستهلاك المحلي للنفط في المملكة يضعها من ضمن أكبر 10 دول مستهلكة في العالم

كيف "يحترم" الآخرون مصادر الطاقة؟ هذه العبارة من وحي مقالة جميلة ومتميزة لأخينا الدكتور أنس الحجي نشرت في "الاقتصادية" مطلع الشهر الماضي بعنوان "لنحترم البنزين". ومع أني ممن "يحترمون البنزين" وسبق لي أن عبرت عن "احترامي" له في عدد من المقالات التي نشرت على صفحات الاقتصادية خلال الأسابيع الماضية، إلا أن مقالة الدكتور أنس حرّكت في داخلي رغبة لتسليط الضوء على ما يقوم به الآخرون للتعبير عن "احترامهم"، ليس فقط للبنزين، بل لمصادر الطاقة عموما والمحروقات تحديدا علنا نحتذي بهم قريبا.
وهذا الموضوع تناوله كثير من الكتاب المختصين وغير المختصين من خلال ملف الطاقة الذي نشرته "الاقتصادية"، إلا أنه يبقى هناك المزيد مما يجب أن يقال في هذا الموضوع، وهو الأمر الذي يجعلني أدلو بدولي مرة أخرى عله يرجع ممتلئا من بئر الأفكار التي قد تطرح وتثمر بالنقاش الهادئ والموضوعي الذي يشترك فيه المختصون والمهتمون في هذا القطاع وصولا إلى بلورة تلك الأفكار إلى برامج تصب في مصلحة الوطن والمواطن.
كفاءة استخدام الطاقة وترشيد استهلاك الطاقة محور اهتمام محلي وإقليمي وعالمي متزايد من قبل الدول المستهلكة والمنتجة للطاقة على حد سواء، وفي هذه المقالة التي تنشر على جزءين سيتم تسليط الضوء على برامج إقليمية وعالمية في مجال ترشيد استهلاك الطاقة على أمل أن يكون فيها ما يصلح من أفكار يتم تطويرها لإنجاح خطط ترشيد الاستهلاك في المملكة.

الاستهلاك العالمي للطاقة .. دلالات ومؤشرات

التقرير الإحصائي لشركة بريتش بتروليوم (BP Statistical Report – 2008 ) الذي نشر في الفترة الأخيرة، وهو أحد المراجع المهمة في قطاع الطاقة العالمي، احتوى في أحد فصوله على بيانات الاستهلاك العالمي للنفط وفيها ما يستحق التوقف عنده لعلاقته بموضوع هذه المقالة. والملاحظات التي استوقفتني والتي يمكن استنتاجها لمن يقرأ البيانات المدرجة في الجدول (1) تتضمن ما يلي:
1. تستهلك الدول العشر الأكبر استهلاكا للطاقة في العالم مجتمعة نحو 49.4 مليون برميل يوميا من النفط تمثل نحو 59 في المائة من معدل حجم الاستهلاك العالمي لعام 2008، الذي بلغ 84.4 مليون برميل يوميا.
2. الاستهلاك المحلي للنفط والمشتقات النفطية في المملكة العربية السعودية يضعها من ضمن أكبر عشر دول مستهلكة للنفط في العالم بمعدل استهلاك بلغ في عام 2008 نحو 2.224 مليون برميل يوميا تمثل نحو 2.6 في المائة من حجم الاستهلاك العالمي.
3. ضمن هذه الدول العشر يوجد تباين في نسبة التغير في حجم الاستهلاك المحلي بين عامي 2007 و2008، وهو ما يهمنا التوقف عنده لعلاقته المباشرة بموضوع المقالة وهو ترشيد الاستهلاك. ففي 4 من الدول العشر (الولايات المتحدة، اليابان، كندا، وكوريا الجنوبية) حصل تراجع أو نمو سلبي في حجم الاستهلاك، وهو ما يشير إلى أمرين، أولهما نجاح تلك الدول في سياسات ترشيد الطاقة، وثانيهما يعود إلى تراجع الطلب الذي حصل في الربع الأخير من العام الماضي نتيجة للانكماش الاقتصادي في تلك الدول.
المجموعة الثانية من هذه الدول حصل فيها نمو إيجابي في معدل الاستهلاك المحلي بنسب تتراوح بين 3 و5 في المائة، وهذه في الغالب هي مجموعة الدول الناهضة (البرازيل، الهند، الصين، وروسيا الاتحادية) إضافة إلى ألمانيا الاتحادية والذي يمكن إرجاعه إلى معدلات النمو الاقتصادي العالية في تلك الدول، والتي لم تتضرر كثيرا من الأزمة الاقتصادية العالمية. أما من تربع على عرش معدلات النمو في حجم الاستهلاك المحلي من بين الدول العشر الأكبر استهلاكا للنفط خلال السنة الماضية فكانت المملكة العربية السعودية، والتي بلغت نسبة النمو السنوي في حجم الاستهلاك فيها قياسا بمعدلات عام 2007 نحو 8.1 في المائة.
جدير بالذكر أن المملكة لا توازي الدول التسع المدرجة في الجدول لا لجهة عدد السكان ولا لدرجة تطور القطاع الصناعي فيها! من هنا لا يبدو غريبا ما ورد في التقرير المذكور أعلاه عن كون معدل الاستهلاك الفردي للنفط في المملكة عام 2008 هو من بين الأعلى عالميا وبمعدل يزيد على ثلاثة أطنان للفرد الواحد.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: ماذا يعني ارتفاع معدل استهلاك الطاقة في دولة ما؟
إنه يشير إلى تحسن مستوى المعيشة الذي بدوره يعني استخداما أوسع وأكثر للسيارات ومكيفات الهواء وأجهزة الحاسب الآلي والأدوات الكهربائية المنزلية، وهو يعني أيضا زيادة الإنتاج الصناعي وما يستهلكه من طاقة، لكن في الوقت ذاته يمكن أن يشير هذا الارتفاع في الاستهلاك إلى تراجع أسعار المنتجات النفطية نسبيا في تلك الدولة، الأمر الذي ينتج عنه الإسراف في استهلاكها، خصوصا إذا كانت أسعارها مدعومة من قبل الدولة كما هي الحال في المملكة وبعض دول الخليج المنتجة للنفط. وفي حالة المملكة تحديدا لا يمكن إرجاع نسبة النمو العالية في استهلاك النفط محليا إلى زيادة الإنتاج الصناعي خلال هذه السنة نظرا لكون الصناعة تستخدم بالدرجة الأساس الغاز الطبيعي كوقود ولقيم، ما يجعل التفسير الوحيد لهذا النمو المطرد في الاستهلاك المحلي للنفط مرتبط بزيادة الطلب على المحروقات في قطاع النقل مدفوعة بتدني أسعارها.

ماذا يفعل الآخرون؟

في الولايات المتحدة، وهي المستهلك الأكبر للنفط على مستوى العالم، أضحى ترشيد الاستهلاك عنوانا بارزا من عناوين السياسة الاقتصادية للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وصار يحتل قائمة أولويات البيت الأبيض خصوصا خلال مرحلة الانكماش التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحاضر.
إحدى المبادرات التي تصب في هذا الاتجاه جاءت خلال حزيران (يونيو) الماضي، عندما تبنى الكونجرس الأمريكي بأغلبية 298 صوتا مقابل 119 خطة الرئيس أوباما لإنعاش صناعة السيارات الأمريكية وأحد عناصرها برنامج أطلق عليه اسم "النقد مقابل المركبات القديمة" أو ما يعرف بالإنجليزية "“Cash for Clunkers Program. ويتضمن البرنامج قيام الحكومة الفيدرالية بدفع كوبونات بقيمة تتراوح بين 2500 و4500 دولار مقابل كل سيارة تجاوز عمرها 13 سنة وفقا لضوابط محددة وحسب معدل استهلاك المركبة للوقود، فأصحاب المركبات التي تستهلك جالونا لكل 18 ميل سيتم منحهم 3500 دولار مقابل استبدال مركباتهم بمركبات تستهلك جالونا لكل 24 ميلا. وتزيد قيمة الكوبون إلى 4500 في حالة كون السيارة توفر وقودا أكثر وبمعدل يزيد على 13 ميلا للجالون مقارنة بمعدل استهلاك السيارة القديمة. وتحديد عملية الشراء بهذه الفئة من السيارات تقف وراءه أسباب اقتصادية وبيئية أبرزها:
* ترشيد استهلاك النفط، حيث إن 60 في المائة من إجمالي استهلاك الولايات المتحدة منه والبالغ 20 مليون برميل يوميا يستخدم كوقود للسيارات البالغ عددها 250 مليون سيارة وشاحنة خفيفة. وعندما تكون أسعار النفط مرتفعة وهو الأمر الذي ينسحب على أسعار الجازولين فإن سائقي السيارات غير الاقتصادية في استهلاك الجازولين سيدفعون أكثر للمحروقات الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تقليل الإنفاق الأسري على الخدمات والمنتجات الأمريكية، وهو ما يؤدي بالتالي إلى تراجع الطلب عليها مما ينتج عنه انكماش الاقتصاد.
* تحفيز صناعة السيارات الأمريكية، وهي من الصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة وترتبط بعافيتها صناعات كثيرة كصناعة البتروكيماويات مثلا. ومن جراء الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد الأمريكي حصل تراجع كبير في عدد السيارات الجديدة المباعة في الولايات المتحدة، فخلال العام الماضي مثلا انخفضت مبيعات السيارات في السوق الأمريكية بمعدل 34 في المائة عن معدلاتها قبل عام (بلغ حجم مبيعات صناعة السيارات الأمريكية في كانون الثاني (يناير) عام 2009 نحو 9.5 مليون سيارة مسجلا انخفاضا ملموسا عن حجم مبيعاتها عام 2008 التي بلغت 13 مليونا ومبيعاتها عام 2007 التي بلغت نحو 16 مليون وحدة) ونتج عن هذا التراجع في مبيعات السيارات إغلاق كثير من مصانع السيارات وخسارة مئات الآلاف من فرص العمل.
* تقليل مستويات التلوث في المدن الأمريكية، حيث إن السيارات القديمة التي تجاوز عمرها 13 سنة تقطع فقط ما نسبته 25 في المائة من إجمالي الرحلات أو المسافات التي تقطعها السيارات في الولايات المتحدة لكنها تتسبب في توليد نحو 75 في المائة من حجم التلوث في المدن الأمريكية الناتج من عوادم السيارات. وهذه الفئة من السيارات القديمة تولد تلوثا يزيد بمقدار 10 إلى 30 ضعفا عما تولده السيارات الجديدة، الأمر الذي يعني أن وجود هذه السيارات يزيد من تلوث أجواء المدن وما يصاحب ذلك من أضرار صحية وتكاليف يتحملها سكانها.
ومن الواضح أن الدافع وراء مثل هذه البرنامج هو تحسين كفاءة المركبات والشاحنات الخفيفة واستبدال القديمة غير الاقتصادية في استهلاك الوقود والتي يملكها في الغالب ذوي الدخول المنخفضة بسيارات جديدة ذات كفاءة استهلاك أعلى، الأمر الذي بدوره يمكن الحكومة من ضرب عصفورين بحجر، حيث يقلل هذا البرنامج الطلب على النفط المستورد كما أنه في الوقت ذاته يمكن أن يحفز صناعة السيارات الأمريكية التي تم إدخالها غرفة الإنعاش. وبموجب البرنامج تقوم الخزينة الفيدرالية بتمويل شراء سيارات جديدة لمالكي السيارات بديلا لسياراتهم القديمة التي يتم تحويلها إلى سكراب مع موافقة المالك على شراء سيارة ذات كفاءة استهلاك وقود أعلى أو استخدام المبلغ في كوبونات تتيح له استخدام وسائل النقل العام. والسيارات القديمة يتم بيعها من قبل الوكلاء والموزعين إلى مراكز "الخردة أو السكراب" لتفكيك القطع وتدوير الحديد والبلاستيك ومن ثم بيعها كخردة وتحويل المبالغ المحصلة إلى الخزينة الفيدرالية. وعلى افتراض قيمة 2500 دولار لكل سيارة فإن البرنامج سيكلف الخزينة الفيدرالية نحو خمسة مليارات دولار لسكراب مليوني سيارة سنويا. لكن جزءا من هذه الفاتورة سيتم استعادته من خلال العوائد المتحققة من مبيعات السكراب، حيث إن معدل وزن السيارات القديمة يبلغ نحو 1.8 طن ونسبة الحديد فيها عالية وبافتراض سعر 565 دولار للطن (حسب أسعار 2008) فإن السيارة القديمة ستولد نحو ألف دولار من مبيعات المعادن فقط. بمعنى أن الخزينة الفيدرالية ستتحمل فقط نحو 1500 دولار لكنها ستحقق مكاسب غير مباشرة من خلال خلق فرص عمل جديدة (مباشرة وغير مباشرة) إضافة إلى تقليل مستويات التلوث في المدن الرئيسية.
وحتى لا أتهم بعدم الموضوعية في الطرح، أقول إن هذه ليست دعوة لتبني مبادرة مماثلة في المملكة لاختلاف الأسباب والدوافع وراء تبنيها، فليست لدينا صناعة سيارات تستدعي التدخل الحكومي لإنقاذها كما هو الحال في الولايات المتحدة وألمانيا مثلا. لكن البرنامج الأمريكي يلتقي في بعض جوانبه مع المصلحة العامة هنا والمتمثلة "بترشيد الاستهلاك" و"تقليل مستويات التلوث في المدن"، وهو ما نشترك فيه مع الولايات المتحدة وغيرها من دول العالم. فنحن لدينا سلعة ناضبة تعد شريان الحياة للاقتصاد الوطني ومن مسؤوليتنا تجاه الأجيال القادمة عدم الإسراف في استهلاكها .. لكن مبرر استعراض هذا البرنامج هو لتبيان أن موضوعا مهما كموضوع "كفاءة استخدام الطاقة" يستدعي التفكير بمبادرات غير تقليدية تتبناها الحكومة للوصول إلى سياسات ناجعة لتقليل استهلاك المحروقات في المملكة، إحداها إصدار تشريعات تقلل من عدد السيارات القديمة التي تسير في شوارع مدن المملكة الرئيسية والتي تحرق كميات ضخمة من البنزين والديزل اللذان يباعان بأسعار متدنية، وما تسببه تلك الفئة من السيارات من خسائر غير منظورة والمتمثلة في تلوث بيئة المدن، وما ينتج عن ذلك من تأثيرات سلبية على صحة سكان تلك المدن ونوعية الحياة فيها.
وفي هذا السياق يمكن التفكير أيضا في ربط الرسوم الجمركية للسيارات المستوردة بحجم محركاتها التي تحدد بدورها مقدار استهلاكها للبنزين، وقد يكون مناسبا أيضا التفكير مثلا في تبني مبادرة مماثلة هنا في المملكة محورها تصحيح أسعار البنزين وتحويل العوائد المتحققة من هذه العملية إلى صندوق مستقل أو برنامج ضمن بنك التسليف يقوم بتقديم قروض ميسرة بدون فوائد للمواطنين الذين يمتلكون سيارات تجاوز عمرها 15 عاما مع حوافز لإسقاط نسبة محددة من قيمة القرض عند تسديد أقساطه كاملة دون تخلف على أن تقدم تلك القروض لشراء سيارات جديدة واقتصادية في استهلاك البنزين. وبموازاة ذلك يتم تبني برنامج يهدف إلى تقليل السيارات القديمة التي تستهلك كميات كبيرة من البنزين وتتسبب في نسبة عالية من التلوث في المدن الرئيسية من خلال عدم تجديد استمارات السيارات المصنوعة قبل عقدين من الزمان كحد أقصى.
خلاصة القول .. موضوع بأهمية تحسين كفاءة استخدام الطاقة في المملكة يستدعي سرعة تفعيل آليات للحوار بين كل الأطراف لبلورة مبادرات عملية تجسد "احترامنا" للبنزين كما يفعل الآخرون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي