رواية «الفطر» .. حين يتخطى التشويق أسئلة الوجود
تسرقنا التكنولوجيا إلى عالمها المختلف، ويشاركنا الذكاء الاصطناعي تفاصيل حياتنا اليومية، يدخل معنا في متاهات الجرائم البشعة وألغاز البحث عن المجرم الحقيقي، يتحول بفعل الزمن والتطور إلى شريك منافس لنا في الحياة، يعيش تفاصيلنا الصغيرة دون أن يشكل أي تهديد على وجودنا.. في رواية "الفطر" للروائي العماني محمد العجمي، نعيش حبكة بوليسية إجرامية فيها من الخيال العلمي الكثير، يطرح خلالها قضية إنسانية واجتماعية معرجا في الوقت نفسه على التقنيات الحديثة التي فرضها الذكاء الاصطناعي على البشر، ويأخذنا في رحلة طويلة، تقع في 246 صفحة نختبر من خلالها صيغة جديدة لإعادة تعريف ما هو الإنسان في ظل التمازج بين البشر والبيئة والبشر والتقنية.
بعد نجاح روايته الأولى "سر الموريسكي" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الـ16 وتمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، قدم الكاتب العماني محمد العجمي، روايته الجديدة "الفطر"، التي تتولى فيها الروبوتات سرد أحداث روائية، في حبكة تشويقية قل وجودها في الروايات العربية.
تعالج الرواية الجديدة الصادرة عن دار عرب اللندنية موضوعا مختلفا، هي رواية الجريمة المشتبكة بالخيال العلمي، الذي يضيف إليه العجمي، أجواء من الغموض الذي لا يأتي فقط من محاولة اكتشاف تفاصيل الجريمة، بل من الروابط التي يقيمها الكاتب بين الذكاء الاصطناعي وعناصر تاريخية وأسطورية، إضافة إلى التجارب الروحانية.
الجريمة
ذات صباح يستفيق سكان بناية اللبلاب على جريمة قتل تحدث في الطابق السادس، وتحديدا في شقة سيدة لا يعرف أحد عنها شيئا، امرأة مصابة باضطرابات نفسية وعصبية تعيش في عزلة تامة عمن حولها، لفترة عامين تتوقف عن الاختلاط مع العالم الخارجي، وتختار العيش في بيئة مختلفة، تحدها جدران منزلها، وتحميها ثلاثة روبوتات، المساعد الأمني سام، والدومري، والروبوت الطبي آدم. تفوح رائحة التحنيط من باب الشقة، يخاف سكان البناية ويستدعون الشرطة للكشف عما يجري في هذا المكان الغامض بالنسبة إليهم. تأتي الشرطة ولا تجد في المنزل سوى سيدة مقتولة بطريقة قاسية وبشعة، ومنزل فارغ وكأن لا حياة فيه، لا يوجد في الأرجاء سوى روبوت آلي، مجموعة مركبة من المعادن الصامتة التي لا تحس ولا تتفاعل، ورغم ضبابية الجريمة، إلا أن الشرطة تجد نفسها أمام فرضية واحدة لا ثانية لها، الروبوت الآلي آدم الذي يعمل مساعدا طبيا للسيدة، هو المشتبه فيه الوحيد في القضية، لكنه لن يكون سوى مجرد كتلة خرساء من المعدن، بلا ذاكرة ولا وعي، ما سيزيد المشهد تعقيدا وغموضا. وكأن العجمي في روايته يحاول معالجة الآثار التي يمكن أن يصنعها اندماج الروبوتات في النسيج الاجتماعي في المستقبل القريب. إنها محاولة لبناء مجموعة من الصور المبتكرة عن المجتمعات البشرية في حدودها الجديدة، وهي تستقبل الذكاء الاصطناعي الذي يفرض عليها تحديات جديدة في العلاقات الاجتماعية والسياسة والتفاعل مع الطبيعة.
مشهدية دون زمان
في رواية "الفطر" نكتشف أننا ندور في حلقة من الأحداث خارج حدود الزمان، وكأن حادثة قتل هذه السيدة غريبة الأطوار، تقع في زمن مستقبلي غير محدد، فالروبوت الطبي "آدم" شارك القتيلة يومياتها الأخيرة وكان مساعدها الطبي، وعندما تصل عناصر الشرطة إلى الشقة التي تسكنها السيدة، تبدأ مجريات التحقيق بغية الوصول إلى القاتل والتعرف على ملابسات الجريمة، والأسباب التي أدت إلى ارتكابها، لكن مع غياب أي دليل أو معطيات، وبعد استجواب سكان البناية، ومع وجود الروبوت "آدم" قطعة معدنية صامتة بجانب الضحية، يصبح البحث عن السبب مهمة مستحيلة، لهذا تعود إلى الواجهة مجموعة أحداث قديمة، تفسر أشياء عن هذه السيدة وتترك أشياء أخرى مبهمة غامضة كحياتها وعزلتها، والتخلي عن العالم الحقيقي والانغماس في العالم الافتراضي والاستعانة بروبوتات آلية لتسيير أمور حياتها. لا أحد يعرف عنها شيئا لكن البحث في ماضيها يكشف النقاب عن كثير من الأمور الخاصة بحياتها، وأسباب اختيارها عزلتها بهذه الطريقة.
الوجود الإنساني
القتيلة سيدة متوسطة العمر، رسامة مرهفة الإحساس، لا تحب الاختلاط، تعيش اضطرابات نفسية واجتماعية، تصادفها مشكلات مختلفة خلال حياتها، تجبرها على اختيار هذه العزلة، أما "آدم" الروبوت فهو أحد العناصر التي تعزز مدى اهتمام المغدورة بالذكاء الإصطناعي، وكيف بات يفتح على مسارات جديدة للإنسان ليعيد اكتشاف نفسه عند هذه الحدود القصوى المبهمة للطبيعة البشرية التواقة دوما لشيء ما خارجها.
فالفطر رواية لا تقع على مستوى إيقاعي واحد، فهي تختبر ثلاثة أو أربعة أشكال وجودية للإنسان، أولا الوجود المشتبك مع الآلات والذكاء الاصطناعي، وثانيا الوجود المشتبك مع الطبيعة في ظل الاستنزاف الرأسمالي المتواصل، وثالثا الوجود المشتبك مع العوالم الإلهية ضمن التجارب الروحانية والعرفانية، وأخيرا الوجود الخالص للإنسان ككائن حر لم ينخرط بعد في العلائقية والتشابكات، كما وصفها جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الذي يهديه العجمي روايته.
الروبوت الراوي
تتكون الرواية من ثلاثة أقسام، لكل قسم سارده. الرواة في الأقسام الثلاثة داخل العمل روبوتات، حيث يجري سرد الأحداث والتفاعلات والحوارات عن طريق هذه الروبوتات الثلاثة: المساعد الأمني سام، والدومري، وأخيرا الروبوت الطبي آدم. تجمع الرواية أفكارا فلسفية وعلمية وصوفية بشكل فني رائع، ويخوض العجمي تحديا حقيقيا حين يعالج هذا الموضوع من باب الجريمة والخيال العلمي، ويعتقد القارئ أنه أمام قصة بوليسية مشوقة، ليكتشف خلال فصول الرواية أن الكاتب يدعوه ليعيش تجربة علمية بأبعاد روحية ووجودية مكثفة. إنها جدلية اكتشاف نقائض في الطبيعة البشرية، المنطق والخرافة، الحقيقة والأسطورة، الموت والحياة، الوعي والمادة. وكأنه يحاول غزو المناطق الصامتة عند حدود الوعي البشري، ليعرف ما الذي يأتي بعده.
الفطر رسول التراب
يتساءل البعض عن علاقة العنوان بمضمون الرواية، ولماذا اختار الكاتب الفطر بالتحديد ليوصف الحالة التي يريد التحدث عنها في هذه القصة، والرد على هذا السؤال واضح وبسيط، ويأتي على لسان بطلة الرواية حين تقول، "لا أعرف كيف أصف هذا الكائن العجيب. إنه شبح ينفلت من رقصة دائرية تنتهي بالتحلل. لا أحتاج سوى مدة قصيرة من تتبعه وملاحظته حتى أتيقن بأنه يوجد كائن مميز آخر غير الإنسان. يخرج من عروق الأرض كأسطورة، ومن خاصرة الجذع كشكوى، ومن بقايا الأحياء كتسبيح. أتخيله روحا للشجرة أرادت أن ترى الحياة على حقيقتها، فأطل بخجل ليروي قصة أخرى لم يسمع عنها أحد. إنه ضيف ثقيل على الكائنات لأنه يغير حالتها ويقلب استقرارها. كنذر يخترق أعماق الموت ليخصبه بالحياة".
إنها محاولة يسعى من خلالها الروائي محمد العجمي، إلى التذكير أو ربما التعريف بأن على هذه الأرض ما يفوق قوة الإنسان وسعة إدراكه، قد يصنع روبوتا يشاركه أدق تفاصيل يومه، لكنه سيبقى جاهلا لأسباب وجود عديد من المخلوقات التي تشاركه الأرض والسماء والماء والهواء، ولعل الفطر إحداها.. "إنه اختراع الحياة لتصحيح أخطائها. شيء ينمو بلا حذر لأن المكان كله له. لا يعتذر عن فضاضته لأنه رسول التراب. ينظر إلى قعر العالم، بحثا عن الجذور الأقدم للأحياء، فقط ليتسلى مع جهلها بتلك الجذور. ذاكرته في الوجود هي الأعظم. حامل النار من الآلهة للبشر، ومفتاح الدخول إلى الحضرات المقدسة للغامض. به اكتشف الإنسان الروح. فمن هو الاستثنائي هنا، الفطر أم الإنسان؟".
"الفطر" للعماني محمد العجمي قيل عنها رواية المستقبل بشغف التاريخ، فيها أبعاد فلسفية ووجودية، ترتدي الطابع البوليسي التشويقي، لكنها تطرح أسئلة أعمق، وتناقش مدى تأثير أي متغيرات في التركبية الاجتماعية التي يحاول الإنسان المحافظة عليها. الذكاء الاصطناعي يلعب في هذه الرواية دور المنبه الذي يجعلنا نقف أمام حقيقة وجودنا والغاية من أدوارنا في الحياة.