التعذيب .. صور لوحشية الإنسان ضد أخيه

التعذيب .. صور لوحشية الإنسان ضد أخيه
سلوك إنساني عابر للأقوام والديانات والهويات والثقافات.
التعذيب .. صور لوحشية الإنسان ضد أخيه
هروود: أعتى درجات التعذيب وحشية تمارس من قبل أكثر الأوروبيين "تمدنا".

يعد البحث عن مفتاح حقيقة "وحشية الإنسان تجاه الإنسان" أحد أقدم المباحث التي شغلت بال الفلاسفة وعلماء النفس، فالجواب القاطع عن السؤال الإشكالي المحير حول السبب الذي يجعل الإنسان، بكلمات الفيلسوف جون بول ساتر، "أكثر الحيوانات فحشا وضراوة وجبنا" لا يزال معدوما، رغم الاستغراق الزمني في البحث دون جدوى. فالوحوش، وعلى عكس الإنسان، لا تستبطن متعة أو ابتهاجا أو تسلية عند قتل المخلوقات الأخرى.
يسود الاعتقاد بأن مختلف الشعوب، عبر التاريخ، مارست، بشكل من الأشكال، صنوفا من التعذيب. لكن يصعب التدقيق بثقة مطلقة متى مورس التعذيب لأول مرة؟ ومن الذي مارسه؟ وبأي مبرر كان ذلك؟ وما نوعه؟ وبأي أسلوب كان؟ أسئلة مفتوحة بلا إجابات فيما وصل إلينا من إرث إنساني مدون، فلا ذكر للتعذيب في القانون البابلي أو الموسوي... وإن كانت الوقائع تفيد بأن هذه الشعوب، تعمد إلى إعدام المجرمين إما بالرجم وإما بالتمزيق إلى نصفين أو بالحرق.
ارتبطت فكرة التعذيب بالعقاب والجزاء، فهو السند والأساس الذي اعتمدته الإنسانية للتفنن في ممارسته، مستغلة اللبس والغبش القائم بين الأمرين، إذ هناك خط دقيق غير واضح بين التعذيب والعقوبة. أتاح هذا التماس للإنسانية، على مر التاريخ، فرصة مثالية لتصريف الانتقال تحت غطاء عقوبات، بلغ حد انتهاك حرمة الجسد البشري، حتى بعد الموت، ما يثبت هنا فرضية انقلاب العقوبة إلى انتقام وضغائن.
القدماء .. التعذيب للانتقام لا العقاب
تنحو الدراسات نحو الإجماع على أن أكثر الفظائع وحشية في التاريخ، ارتكب باسم الدين أو الوطن أو العدالة، فالتعذيب لدى عدة حضارات، الآشوريين والفرس والرومان... كان وسيلة لانتزاع الحقيقة. وكان الإغريق، بحسب ما أورده أريستوفان وأناكريون، يفضلون العجلة والمخلعة، قبل ابتكار الكرة النحاسية، حيث يقذف بالضحايا "المتهمين" داخل الكرة، ويغلق عليهم بشدة وإحكام، ليتم إشعال النار تحتها حتى يهلك التعساء داخلها.
يكشف المتأمل في تاريخ أدوات التعذيب أن المنافسة كانت محتدمة بين الحضارات، فكل واحدة تحاول ترك بصمتها في المجال. فعلى غرار اليونان، برع الرومان الذين عرفوا التعذيب لأتفه الأسباب، في الإبداع باختراع "الحصان الخشبي". تفيد الروايات أن الإمبراطور الروماني كاليجولا كان مهووسا بالتعذيب لدرجة أنه أفضل وسيلة لتزجية الوقت بالنسبة له، وتطرف في مسبباته حد اعتباره التعري أمام صورة الإمبراطور سببا يوجب "العقاب" على مرتبكه.
استطاع الصينيون أن يطوروا التعذيب إلى درجة عالية من التعقيد والمنطق، وتكمن حجتهم في فلسفة جعل "العقوبة تتلاءم والجريمة". فتفننوا في طرق العقاب، واشتهرت عندهم عقوبة "ليغ تشي"، الجاري العمل بها حتى عشرينيات القرن الماضي، التي تخصص لقتلة الآباء والأمات أو لأكثر من طرف في العائلة. تستند إلى قاعدة الموت بالجروح، وتبقى أكثرها ترويعا "الموت بـ120 جرحا"، أما أشهرها فهو "الموت بـ24 جرحا"، وتختلف أماكن إحداث الجروح التي تحدد بدقة بحسب عددها.
غير بعيد، اهتدى الهنود إلى الاستعانة بالحيوانات لتنفيذ عقوبة الإعدام، فاستخدموا الفيلة لسحق جماجم المحكوم عليهم. بعدما ضجروا من التعذيب البدائي من قبيل الرفع بالشاربين والتعليق بالذراعين وهما مربوطان خلف الظهر، والكي بالحديد المحمي، والمنع من النوم، وإغراق العينين بالفلفل، ووضع الحشرات على أماكن حساسة في الجسم... وغيرها من الأعمال الوحشية التي لا تتوقف حتى الموت.
حاولت قبائل البورميين، نسبة إلى بورما، تهذيب التعذيب بجعله أكثر "إنسانية"، فأقرت عقوبات مرتبطة بنهر أراوادي، أحد أكبر الأنهار في البلاد، حيث يلقى المحكوم عليه في الماء، لكي تلتهمه أعداد غفيرة من السمك الشبيه بالضاري. أما الصنف الثاني، فكان التثبيت على جذع عند مجرى المد، ثم يترك ليموت غرقا مع ارتفاع المياه.
فنون مرعبة من التعذيب، ذاق أناس مرارتها بأيدي إخوانهم في الإنسانية، يبقى وصفها قاصرا، مهما بلغت دقة الكلمات، لدرجة جعل أحدهم الباحثين في تاريخ التعذيب يعلق على هذه الإبداعات الوحشية، بقوله، "الموت بقطع الرأس يعد دائما موتا فاخرا من قبل ضحاياه؛ لأنه يعد موتا مشرفا".
المتحضرون .. التعذيب منزع إنساني
تظل هذه الممارسات حكرا على الشعوب والأمم غير "المتحضرة"، فموجات التمدن طهرت الإنسانية من هذه الأفعال البدائية. انتشرت هذه السردية تبشيرا بالتحضر في أوروبا، إلا أن شواهد التاريخ ترفضها، وبشدة، إذ يذهب بيرنهاردت ج هروود في "تاريخ التعذيب" إلى أن أعتى درجات التعذيب وحشية تمارس من قبل أكثر الأوروبيين "تمدنا".
فقد شاع سلخ فروة الرأس واقتلاع العين في بريطانيا حتى القرن الـ16. وكان أحد أقسى أساليب الإعدام تلك التي ابتكرها الملك هنري، وهي السلق حتى الموت، حين سن قانونا يقضي بسلق السجناء أمام الناس. وكان طباخا يدعى ريتشارد روز أول ضحايا هذا القانون لعزمه قتل شخصية عامة عن طريق التسميم. أما شنق الأطفال من أجل سرقات بسيطة سائدا إلى غاية القرن الماضي. أما حرق البؤساء من منظفي المداخن، فكان من الأمور المسلية بالنسبة إلى كثير من النبلاء في إنجلترا.
تحدث أحدهم عن أعمال من صميم يوميات النبلاء، رسل التحضر في أوروبا، فكتب "النار والسيف والقبور الجماعية والفسخ إلى أربعة أجزاء والدولاب والوضع في أكياس والمشنقة لم تكن غريبة على (السيد). كان يعرف كيف يثمل وينخس ويخلع ويكسر الأسنان ويحرق العيون، ويبثر الأيدي والأقدام والأنوف والآذان. وكان يعرف كيف يخصي ويقطع الأطراف، ويجلد ويكسر العظام على الدولاب، ويهين ويسلخ الأحياء ويسلق ويقلي بمنتهى الوقار والتأني".
تبقى الحقيقة الساطعة أن النزوع نحو التعذيب خصلة إنسانية، غير مرتبطة لا بالحضارة ولا بالمدنية، فلدى الإنسان قابلية لارتكاب إبادات جماعية متى امتلك السلطة والقوة، وسقطت الروادع. ألم ترتكب أوروبا النهضة والأنوار والحداثة أكبر المجازر في حربين كونيتين. ما حدا بالأنثروبولوجي السكوتلاندي، جميس جورج فريز إلى القول، في مؤلف "الغصن الذهبي" فيما يشبه الاعتراف، "يبدو في الحقيقة أنه حتى في أيامنها هذه يظل الفلاح وثنيا ومتوحشا في أعماقه. وتمدنه قشرة رقيقة سرعان ما تزيلها ضربات الحياة القاسية لتكشف عن الجوهر الصلب للوثنية والهمجية تحتها".
التعذيب إذن سلوك إنساني عابر للأقوام والديانات والهويات والثقافات والأصول، ليصبح مشتركا إنسانيا يمارس متى توافرت ظروف ذلك. ليس فقط تجاه الآخر، في شكل عقاب أو انتقام، لكن أيضا تجاه الذات، أي التعذيب الذاتي، في غرائبيات عجيبة، يحدث أن نمارس باستمرار كثيرا منها، في شكل طقوس وعادات، دون أن نمتلك الحدود الدنيا للوعي بذلك.

الأكثر قراءة