جدل حول قدرة رفع الفائدة على لجم التضخم .. مخاوف من ندوب اقتصادية طويلة الأمد

جدل حول قدرة رفع الفائدة على لجم التضخم .. مخاوف من ندوب اقتصادية طويلة الأمد
جدل حول قدرة رفع الفائدة على لجم التضخم .. مخاوف من ندوب اقتصادية طويلة الأمد

بدرجة عالية من الثقة، يمكن الجزم بأن الكلمة الأكثر انتشارا وذيوعا عند الحديث في الشأن الاقتصادي في عالم اليوم هي التضخم. فما عليك إلا أن تتصفح أي صحيفة وستجد الكلمة موجودة تقريبا في ثنايا السطور في كل صفحة، وعند مناقشة أي موضوع اقتصادي.
وبين الصراخ والأنين يضج العالم من ارتفاع أسعار السلع والمنتجات والخدمات. ارتفاع الأسعار هذا هو ما يطلق الاقتصاديون عليه مصطلح التضخم.
وعلى الرغم من أن كثيرا من الدلائل تشير إلى أن الأسوأ قد يكون وراءنا، بمعنى أن المعدلات المرتفعة للتضخم التي عاناها الاقتصاد الدولي هذا العام قد ولت، فإنه لا يمكن الجزم بشكل قاطع بأنها ولت بدون رجعة، فعلى الأقل لا تزال هناك مخاوف مشروعة لدى مجموعة من الخبراء من احتمال عودتها مجددا.
يعرب الخبراء عن قناعتهم بأن التضخم سيكون مصدر قلق بالغ وكبير لعديد من الاقتصادات حول العالم سواء كانت متقدمة أو نامية أو تنتمي إلى الأسواق الناشئة، حتى إن تراجع معدل التضخم نسبيا في الأسابيع الأخيرة.
وتبدو القناعة السائدة لدى قطاع كبير من المسؤولين في البنوك المركزية الكبرى أنه من المحتمل أن تمر بضعة أعوام.. نعم بضعة أعوام قبل أن تنخفض الأسعار وتبتعد عن المستويات المرتفعة التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها في هذا العام.
ما الحل إذن، وهل يمكن للدول الغنية التي وصل فيها التضخم إلى معدلات لم تعرفها منذ أربعة عقود ونيف أن تتحمل هذا الوضع، وإذا كان الأغنياء من دول العالم غير قادرين على تحمل الضغوط الناجمة عن التضخم فهل تتحمله الدول الفقيرة والاقتصادات الناشئة؟
ولماذا يعتقد الخبراء أن التضخم حتى إن تراجع نسبيا عن المعدلات غير المسبوقة التي ضربت الاقتصاد الدولي هذا العام سيظل مرتفعا ولأعوام؟
لكن دعونا نضع التضخم والألم الناجم عنه جانبا الآن وسنعود إليه لاحقا، ونتطرق إلى مفردة اقتصادية أخرى زادت انتشارا وشيوعا في الأحاديث الاقتصادية منذ بداية العام الجاري، وبدت في الواقع مرافقه للحديث عن التضخم.. إنها أسعار الفائدة، الآخذة في الارتفاع، التي لا يكف محافظو البنوك المركزية عن تحذيرنا من أنها ستواصل الارتفاع في العام المقبل.
وفي محاولة للجم مخاوفنا يسعون إلى تهدئتنا بالقول إن وتيرة الارتفاع القادم في أسعار الفائدة ستكون أقل.
المنطق الاقتصادي السائد أن ارتفاع أسعار الفائدة سيؤدي إلى جذب أموال المستهلكين وإيداعها كمدخرات في البنوك، وبذلك يتم سحب السيولة من الأسواق بدرجة ما، ويعني ذلك عدم توافر أموال إضافية في أيدي المستهلكين للشراء، ومن ثم ينخفض الطلب على السلع والخدمات، وتتراجع أسعارها.
يبدو الأمر شديد المنطقية، ومع هذا فإن السؤال الذي يطرحه البعض بديهيا للغاية، إذا كان الأمر بهذا المنطق والسلاسة فإن البنوك المركزية حول العالم رفعت أسعار الفائدة في 2022 مرات عديدة - البنك المركزي الأمريكي زاد نسبة أسعار الفائدة سبع مرات - مع هذا لم ينخفض التضخم بنسبة توازي نسبة ارتفاع أسعار الفائدة البنكية.
يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور ديفيد فليكس أستاذ الاقتصاد الكلي في مدرسة لندن، "العلاقة بين أسعار الفائدة والتضخم عكسية، فرفع البنوك أسعار الفائدة يؤدي إلى خفض التضخم، لكن الأمر لا يعني أن رفع أسعار الفائدة 1 في المائة يعني انخفاض معدل التضخم 1 في المائة، فالقضية أكثر تعقيدا من ذلك، كما أننا لا نضغط على زر فيتم رفع أسعار الفائدة، وفي اليوم التالي ينخفض التضخم بنسبة ارتفاع الفائدة. الأمر يتطلب وقتا لتبدأ الآليات الاقتصادية في العمل، والمدى الزمني لحدوث هذا يختلف من اقتصاد إلى آخر، وفقا لعديد من العوامل المتعلقة بالتطور الاقتصادي وثقل المؤسسات المالية في المنظومة الاقتصادية وثقافة المجتمع الاقتصادية".
وفي الواقع فإن عودة التضخم في بداية العام الجاري كانت مفاجئة للجميع، واليوم ورغم رفع أسعار الفائدة فإن التضخم يأبى أن يتزحزح كثيرا عن موقعه، ففي ديسمبر 2020 أخطأ الفيدرالي الأمريكي عندما توقع أن الأسعار سترتفع بنسبة أقل من 2 في المائة في 2021 - 2022، وكرر الخطأ مرة أخرى في ديسمبر 2021 عندما توقع أن التضخم في 2022 لن يتجاوز 2.6 في المائة.
ويعتقد مات هانت الباحث في الشؤون المصرفية أن تأثير رفع أسعار الفائدة لم ينعكس بالنسبة ذاتها على معدل التضخم لعدد من الأسباب، من بينها الحرب الروسية - الأوكرانية وتداعياتها على الدولار الأمريكي.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الحرب الروسية - الأوكرانية أسهمت في رفع قيمة الدولار في مواجهة العملات الدولية الأخرى، حيث إن ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة دفع الاحتياطي الفيدرالي إلى شن حملة ضد التضخم المتنامي محليا، فرفع أسعار الفائدة ومن ثم زادت قيمة الدولار.
ويضيف "إذا أخذنا في الحسبان أن رفع قيمة الدولار 10 في المائة يرفع الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين في الأسواق الأجنبية بنحو 1 في المائة، وتزيد تلك النسبة كلما كان الاقتصاد محل البحث يعتمد على الواردات، فهذا يعني أن زيادة الفائدة لن تنعكس على التضخم وتؤدي إلى خفضه بالنسبة ذاتها".
بينما يرى ليام توبي رئيس قسم التحليل المالي في مجموعة لويدز المصرفية أن الارتباط العام بين رفع سعر الفائدة وخفض معدل التضخم لا يعني التحرك بمعدل نقطة مئوية مقابل نقطة مئوية، إذ يجب الأخذ في الحسبان عددا من العوامل المتعلقة بالقيم والمعتقدات الاقتصادية للمجتمع وتجربته السابقة في مثل تلك الحالات.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن كثيرا من المجتمعات خاصة النامية تنظر إلى رفع أسعار الفائدة باعتباره مؤشرا إلى وجود أزمة اقتصادية تدفع الحكومة إلى محاولة الحصول على العملات المحلية والأجنبية والمعادن النفيسة خاصة الذهب المدخر من قبل الأفراد، ويعمق ذلك غالبا القناعات الشعبية بأن الوضع الاقتصادي مقبل على التدهور، وبدلا من أن يكون ذلك وسيلة لخفض الطلب نجد أن الطلب يرتفع جراء المفاهيم الشعبية بأن هناك موجة قادمة من رفع الأسعار، ما يدفع كثيرا من المستهلكين إلى الإسراع بعمليات شراء بالأسعار الراهنة، تفاديا للشراء مستقبلا بأسعار أعلى، ومن ثم نجد أن رفع أسعار الفائدة قد يعزز التضخم أحيانا".
المؤكد الآن أن التضخم لن يكون مؤقتا، على الرغم من أن معظم مصادر التضخم ستنحسر تدريجيا خلال الأعوام المقبلة، ومع مواصلة التشديد النقدي فإن إمكانية السيطرة على التضخم ستتزايد، لكنه سيظل من المستبعد أن يصل إلى 2 في المائة وهي النسبة التي تستهدفها البنوك المركزية الكبرى في القريب العاجل.
مع هذا يجب التنويه بأن الأفكار السائدة حول رفع معدلات الفائدة أنها وسيلة ناجعة للسيطرة على التضخم، تلك الفكرة لا تلقى بالضرورة قبولا لدى كل الاقتصاديين، ومن بينهم الدكتورة إلسي أوليفر أستاذة الاقتصاد الاجتماعي في جامعة كامبريدج.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أن المدافعين عن نظرية رفع أسعار الفائدة لخفض التضخم يحاولون تجنب الإجابة عن التساؤل الرئيس: ما الذي يسبب التضخم؟
وتقول "الأمر ببساطة أن الطلب أعلى من العرض، ورفع أسعار الفائدة يجعل من الصعب حشد مزيد من رؤوس الأموال من أجل الاستثمارات التي ستزيد جانب العرض، وبذلك رفع أسعار الفائدة يمكن أن يسبب ضغوطا تضخمية".
وتشير إلى أن السياسات المالية الموجهة بشكل جيد من خلال إعادة النظر في الضرائب والإنفاق الحكومي يمكن أن تروض التضخم أفضل من السياسات النقدية التي تركز على المعروض من النقود وأسعار الفائدة.
وتضيف "لا أنكر أن رفع أسعار الفائدة قد يدفع بمعدلات التضخم إلى الانخفاض، لكنه سيكون طريقا مؤلما وسيترك ندوبا طويلة الأمد على الاقتصاد، بينما السياسات المالية ربما لا تؤدي إلى خفض التضخم سريعا، لكن ستحقق من خلال آليات العمل الخاصة بها كثيرا من الفوائد الاجتماعية طويلة الأمد".
وتختتم الدكتورة إلسي أوليفر بقول لأحد علماء النفس المشهورين يدعى إبراهام ماسلو "إنه بالنسبة إلى رجل يحمل مطرقة، كل شيء يبدو كأنه مسمار، ولأن الفيدرالي الأمريكي يمتلك مطرقة وهي قيادته البنوك المركزية في العالم فإن هذا لا يعني أن يستخدمها لتحطيم الاقتصاد الدولي".

الأكثر قراءة