ماذا لو كان العمل يصيبنا بالمرض؟

ماذا لو كان العمل يصيبنا بالمرض؟

بريطانيا مريضة. لقد تضاعف عدد الأشخاص الذين يطالبون بإعانات العجز خلال عام. كما أن وفيات من هم في سن العمل تتزايد "لا تشمل الوفيات من كوفيد- 19". قال آندي هالدين، كبير الاقتصاديين السابق في بنك إنجلترا، في خطاب ألقاه أخيرا، "لأول مرة، ربما منذ الثورة الصناعية، الصحة والعافية في حالة تراجع".
التفكير في عواقب ذلك على اقتصاد البلد كان عميقا. أصبحت نسبة متزايدة من الناس الآن مريضة للغاية لدرجة لا يمكنها العمل، ما يجعل من الصعب ترويض التضخم وتعزيز النمو. من المفهوم إذن أن سؤال "كيف يمكننا إعادة الناس إلى العمل؟" هو السؤال الذي يستمر صناع القرار في طرحه. لكن ماذا لو كان العمل بحد ذاته جزءا من المشكلة؟
بكثير من المقاييس، يعد العمل أقل خطورة على صحتنا مما كان عليه في السابق، ولا سيما في بلد مثل المملكة المتحدة حيث تقلص قطاعا التصنيع والتعدين كثيرا. انخفضت الاضطرابات العضلية الهيكلية، التي كانت في السابق أكبر سبب لاعتلال الصحة المرتبط بالعمل، بشكل مطرد خلال العقود القليلة الماضية.
لكن في حين أن العمل أصبح أقل خطورة جسديا، يبدو أنه أصبح أكثر خطورة من الناحية النفسية. بدأت حالات الإجهاد والاكتئاب والقلق المرتبطة بالعمل في الارتفاع منذ عقد تقريبا. كما أن هذه الحالات تصاعدت خلال الجائحة وتمثل الآن نصف الحالات المرضية المرتبطة بالعمل.
ما سبب ذلك؟ نعلم من بيانات الاستطلاعات التي ترعاها الحكومة أنه كان هناك تكثيف للعمل في العقود الأخيرة في جميع أنواع الوظائف من سائقي التوصيل إلى محامي الشركات. من المرجح الآن أن يقول الناس إنهم يعملون بسرعة ومشقة لكي يلتزموا بالمواعيد النهائية الضيقة أكثر مما كانوا عليه في التسعينيات.
كما حدث انخفاض في مستوى سيطرة الناس على طريقة عملهم، ولا سيما بين العمال ذوي الأجور المنخفضة. بين 1992 و2017، انخفضت نسبة العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين أفادوا بأن لهم رأيا في القرارات التي تؤثر في عملهم من 44 إلى 27 في المائة، مع انخفاض حاد بشكل خاص بين موظفي الضيافة والتجزئة.
تظهر الأبحاث أن الجمع بين ارتفاع الطلب وانخفاض السيطرة في العمل - المعروف في الأدبيات الأكاديمية "بالإجهاد الوظيفي" - ضار بالصحة العقلية والبدنية. وجدت إحدى الدراسات الأمريكية، التي تابعت أكثر من 52 ألف امرأة عاملة على مدى أربعة أعوام، أن إجهاد العمل مرتبط بزيادة أكبر في مؤشر كتلة الجسم، مثلا.
في الأسبوع الماضي، أجريت مقابلة مع امرأة تعمل في مقهى. تعمل هذه المرأة وهي واقفة لمدة عشر ساعات من الساعة السادسة مساء حتى الساعة الرابعة صباحا، وتعود إلى المنزل وتنام بضع ساعات ثم تستيقظ لتأخذ ابنتها إلى المدرسة. قالت إنه في الأغلب ما يعاني العاملون في المقاهي انهيار العلاقات بسبب ساعات العمل.
كما أن العمل قد يكون مرهقا. "إنه حقا عمل شاق عقليا في بعض الأحيان، والساعات لا تساعدنا، أحيانا يأتي العملاء الساعة الثالثة صباحا وتكون متعبا جدا (...) وهم يشتمونك فحسب، بحيث لا يمكنك التعامل معهم لكن عليك فعل ذلك لأنها وظيفتك".
اعتاد صاحب عملها القيام بأمور لتسهيل التعامل مع الوظيفة، لكن اختفت هذه الأمور كلها. لم يعد هناك عشاء دافئ مجاني، واختفت كذلك فترة الاستراحة التي كانت كافية لتناوله. كما اختفت سيارة الأجرة التي توصلك إلى المنزل في الساعة الرابعة صباحا. ولم تعد هناك مكافأة للكريسماس، ولا علاوة العمل في الليل. "في الآونة الأخيرة كثيرا ما يترك الناس العمل لأنهم يشعرون بالاكتئاب"، كما قالت لي.
شهد كثير من الدول اتجاهات مشابهة في جودة العمل في قطاعات معينة، فلماذا إذن قد تكافح المملكة المتحدة أكثر من معظمها؟
ربما لأن الآليات التعويضية التي يمكن أن تحمي العمال من هذه الاتجاهات - "الدرع الواقية"، حسب تعبير جينيفر ديكسون من مؤسسة الصحة - ضعيفة بشكل خاص في بريطانيا. البلد سيئ من حيث تطبيق قوانين العمل الخاصة به، كما أظهرت كارثة "بي آند أوه" هذا العام عندما طردت الشركة مئات البحارة دون أي استشارة فيما يسميه المحامون "خرقا فاعلا" لقانون التوظيف. انخفضت عضوية النقابات العمالية بشكل حاد في القطاع الخاص. وتم خفض ميزانية إدارة الصحة والسلامة.
لا يعني أي من هذا أن نلقي على العمل كامل المسؤولية عن تدهور صحة الأمة. هناك كثير من الأسباب المحتملة الأخرى، من الأطعمة المصنعة إلى تزايد الشعور بالوحدة ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن الجائحة نفسها والضغط على خدمة الصحة الوطنية.
لكنني لا أعتقد أن أي نقاش حول الحالة الصحية للبلد يكتمل دون إلقاء نظرة واضحة على واقع الحياة في سوق العمل في المملكة المتحدة للذين ليس لديهم وظائف لائقة. العمل ذو الجودة الجيدة مفيد للصحة. لكن إذا حاولنا فقط معالجة الناس ودفعهم للعودة إلى الوظائف التي كانت تجعلهم مرضى، فلن نصل إلى أي مكان على الإطلاق.

الأكثر قراءة