صلاح فضل.. رحيل آخر الآباء المؤسسين للثقافة العربية

صلاح فضل.. رحيل آخر الآباء المؤسسين للثقافة العربية
صلاح فضل.. رحيل آخر الآباء المؤسسين للثقافة العربية
صلاح فضل.. رحيل آخر الآباء المؤسسين للثقافة العربية
صلاح فضل.. رحيل آخر الآباء المؤسسين للثقافة العربية

"شمس غابت لكن أثرها باق في الوجدان، أحد حراس اللغة العربية على مر الزمان وصاحب المؤلفات التي ستبقى طويلا في المكتبة العربية"، بهذه الكلمات نعت الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل، رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة بعد مسيرة أدبية خصبة حافلة بالعطاء والإنجاز، امتدت على مدار 84 عاما، قدم خلالها للمكتبة العربية كثيرا من المؤلفات المهمة والرائدة، خاصة في مجال الأدب المقارن ومناهج النقد الحديث. ترأس مجمع اللغة العربية وأسهم في نهضة النقد الأدبي. تميز فضل بدرايته الجيدة بفنون الأدب العربي، ولغته الفصيحة الرشيقة، واجتهد بمتابعة ما ينتجه الأدباء من شعر وقصة ومسرحية، وبمعايشة كل الاتجاهات الأدبية العالمية والتيارات الأدبية النقدية.

مشروع أدبي نقدي متكامل
كان للدكتور صلاح فضل مشروع أدبي نقدي متكامل، أسس على تساؤلات وقضايا حقيقية حول كل من المناهج النقدية الغربية الحديثة وعلاقتنا بها، حراك الأنواع الأدبية، وشائج الثقافات المتعددة، ما يبقى وما يتوارى من نماذج الإبداع في عصور مختلفة، أبعاد الصلة بين النقد النظري والنقد التطبيقي، علاقة التخيل الإبداعي بالحرية. وقد زاوج بين ما لا يتزاوج عادة، لكونه جمع بين اهتمامات معرفية متنوعة يمتد البحث بها لأجيال وعقود ولا ترتبط بحقبة زمنية مؤقتة، ويشكل شعره ظاهرة قائمة بحد ذاتها لما يتضمنه من جمالية في النص الشعري وتنوع الأساليب التي استخدمها.

حاكى جوهر القضايا
في نظمه وكتاباته، فهو عرف كيف يحاكي جوهر القضايا، ويبحث ما وراء السؤال، ولأنه آمن بحرية الشعر لا قيد له ولا شرط، لم يسجن كلماته في قفص مقولب، بل أطلقه حرا" كما تذوق الشعر دائما، وحرص على تحليل المادة الأدبية التي بين يديه، بحث في بواطن الأمور والعوالم الداخلية الغامضة، وأسعفته لغته الرشيقة في خرق الأعراف الشعرية السائدة والمهيمنة، فتميز عن أبناء جيله بنمط مختلف في الشكل والمضمون وأساليب معالجة القضايا التي طرحها وكيفية مقاربتها. هذا ويعده كثير من الأدباء والشعراء آخر الآباء المؤسسين في اللغة العربية.
تنقل الراحل في تخصصه ما بين الأدب الأندلسي والأدب المقارن، ورفده بدراسة علمية رصينة للتيارات والمناهج النقدية المعاصرة، فضلا عن نشاطه وحضوره المكثف سواء بالكتابة النقدية، أو التأليف أو الترجمة، كما شارك في معظم الفعاليات الثقافية في الوطن العربي، وأسهم في تأسيس كثير منها، وكان حريصا على الكتابة في الصحف والمجلات والدوريات المختلفة، ولا سيما مقالاته الأسبوعية في جريدة "الأهرام المصرية"، إضافة إلى المشاركة في المؤتمرات والندوات والفعاليات البحثية والعامة.
عرفت عنه رحابة صدره وتشجيعه للأقلام الشابة، وانفتاحه على الآخرين وتميز بإتقانه عديدا من اللغات ما شكل له جسرا من التواصل بعيد المدى، وكان منزله في مدينة المعادي المصرية مركزا ثقافيا يأمه عديد من الكتاب والمثقفين ومتذوقي الفن الأدبي، نثرا وشعرا وكتابة مسرحية.

مؤسس الجمعية المصرية للنقد الأدبي
وكان للدكتور صلاح فضل نشاط أكاديمي وثقافي واسع في مصر وخارجها، حيث شارك في تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي وتولى رئاستها، كما أسندت إليه رئاسة اللجنة العلمية لموسوعة أعلام علماء وأدباء العرب والمسلمين بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو". كما انتدب مستشارا ثقافيا لمصر ومديرا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد في إسبانيا منذ 1980 حتى 1985، ورأس في تلك الأثناء تحرير مجلة "المعهد المصري للدراسات الإسلامية" في مدريد، كما اختير أستاذا شرفيا للدراسات العليا في جامعة مدريد المستقلة. وعمل أستاذا زائرا في جامعات صنعاء في اليمن والبحرين حتى 1994. كما عمل أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في كلية الآداب في جامعة عين شمس ورئيسا لقسم اللغة العربية، إضافة إلى ذلك انتدب لتولي رئاسة مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية قبل أن يحال إلى التقاعد بعد بلوغه السن القانونية.
وقام الراحل بدور تأسيسي في عديد من الأنشطة والمجالات منها المشاركة في اللجنة التنفيذية العليا لمؤتمر المستشرقين الذي عقد في المكسيك 1975، كما شارك في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي، كما اختير عضوا شرفيا في الجمعية الأكاديمية التاريخية الإسبانية.
هذا وأشرف الدكتور صلاح فضل على موسوعة أعلام مصر في القرنين الـ19والـ20 التي تصدرها مكتبة الإسكندرية، التي أنجزت حتى الآن مواد تغطي ستة آلاف عام من تاريخ مصر، جرى وضعها على موقع المكتبة.

كل جديد لا يبنى من فراغ
تتسم رحلة الراحل صلاح فضل مع الأدب بالشمول والتنوع، واتسم عطاؤه النقدي بمعادلة شديدة التوازن والعمق، ما بين الانفتاح على التجارب الجديدة في الكتابة ومناحي الإبداع، وفي الوقت نفسه، إعادة الاعتبار للتيارات الراسخة في التراث العربي باعتبارها حجر الأساس، وأن كل جديد لا يبنى من فراغ.
وللدكتور صلاح فضل عشرات المؤلفات التي أثرت المكتبة العربية في الأدب والنقد الأدبي والأدب المقارن وزودت الباحثين برؤى جديدة في الشعر والمسرح والرواية، منها "من الرومانث الإسباني، دراسة ونماذج" 1974، "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي" 1980، "علم الأسلوب - مبادئه وإجراءاته" 1984، "بلاغة الخطاب وعلم النص" 1993، "تحولات الشعرية العربية" 2002، "محمود درويش - حالة شعرية" 2010، "شعر العامية من السوق إلى المتحف" 2019.
كما اشتهر بالترجمة خاصة الأعمال المسرحية الإسبانية، ومن أبرز ما قدمه إلى القارئ العربي، "الحياة حلم" للكاتب بيدرو كالديرون دي لا باركا، نجمة إشبيلية للكاتب لوبي دي فيجا، "القصة المزدوجة للدكتور بالمي" و"حلم العقل، تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة" و"أسطورة دون كيشوت" ووصول الآلهة" للكاتب أنطونيو بويرو باييخو.

مسيرة حافلة تكللت بالجوائز
في 1938، ولد صلاح فضل في قرية شباس الشهداء في وسط دلتا، اجتاز مراحله التعليمية في المعاهد الأزهرية، حصل على ليسانس كلية دار العلوم في جامعة القاهرة 1962، وعمل معيدا في الكلية ذاتها منذ تخرجه حتى 1965. أوفد في بعثة للدراسات العليا في إسبانيا وحصل على دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة مدريد المركزية 1972، وعمل في أثناء بعثته مدرسا للأدب العربي والترجمة في كلية الفلسفة والآداب في جامعة مدريد منذ 1968 حتى 1972، وتعاقد خلال الفترة نفسها مع المجلس الأعلى للبحث العلمي في إسبانيا للإسهام في إحياء تراث ابن رشد الفلسفي ونشره.
عمل بعد عودته أستاذا للأدب والنقد في كليتي اللغة العربية والبنات في جامعة الأزهر، وكان أستاذا زائرا في كلية المكسيك للدراسات العليا منذ 1974 حتى 1977، وأنشأ خلال وجوده في المكسيك قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة المكسيك المستقلة في 1975، وانتقل إلى العمل أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في كلية الآداب في جامعة عين شمس منذ 1979 حتى وفاته.
وبعد مسيرة حافلة، حصل فضل على جوائز عديدة خلال مسيرته الطويلة، كان آخرها جائزة "النيل"، وذلك في 2018، ونال جائزة عبدالعزيز سعود البابطين الثقافية في نقد الشعر في 1996 وجائزة الدولة التقديرية في الآداب في 2000، وجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في الدراسات الأدبية والنقد في 2015.
اليوم، رحل صلاح فضل تاركا بصمة دامغة في الثقافة العربية، تتناقلها الأجيال وترتشف منها أرقى الأدب العربي وثقافة تحاكي الأجيال المقبلة.

الأكثر قراءة