رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


فارق جوهري بين أزمة 1929م وأزمة 2008م!!

يعيش عالمنا - ونعيش معه - أزمة اقتصادية طاحنة، وتاريخية بكل المقاييس، فهي لا تتكرر إلا كل 100 عام تقريباً... السؤال، في مثل هذه الظروف الصعبة: هل ترتفع معدلات الجريمة أم تنخفض؟
من السهل القول: ''وهل هذه مسألة تستحق السؤال والتفكير يا دكتور؟ مؤكد أن الجريمة سترتفع، نظراً لارتفاع معدلات البطالة، وبالتالي تراجع الدخول في وقت لم تتراجع فيه الحاجات، فكيف ستتم تغطية الفجوة بين ما أحتاج إليه وما لدي من مال؟ بالطبع من خلال السرقة والنهب والقتل من أجل السرقة أو السطو أو الاستيلاء على المال العام... إلخ''.
ولكن أضع أمامكم هذا المثال، الذي ساقه كارل ماركس منذ 100 عام تقريباً، عندما قال '' عندما تكون جميع المنازل متساوية في صغرها، لن تكون هناك مشكلة، ولكن تتصاعد المشكلات إذا ما أقيم قصراً وسط تلك المنازل الصغيرة، حيث ستتحول تلك المنازل الصغيرة إلى أكواخ في نظر ساكنيها''.
ما الذي يمكن أن نفهمه من هذا المثال؟ الذي نفهمه هو أن الناس، إذا تقاربت في أوضاعها الاجتماعية والمادية، سيكون هناك وئام اجتماعي، ولكن الجريمة تتصاعد عندما يحدث التفاوت Imbalance بين من يملكون ومن لا يملكون. أي أن الجريمة تستشري في المجتمعات التي تشهد تفاوتاً صارخاً بين قلة تملك وأغلبية فقيرة معدمة.
هذا ليس كلاما نظريا بحتا, ولكنه كلام علمي، فمؤشرات الجريمة العالمية توضح مثلاً أن الولايات المتحدة (وهي أغني بلد في العالم) تشهد أعلى معدلات الجريمة عالمياً في حين أن إفريقيا الفقيرة هي أدنى قارات العالم من حيث معدلات الجريمة!! والسبب في ذلك، أن الهوة السحيقة بين من يملكون ومن لا يملكون في بلد كالولايات المتحدة، تؤدي إلى تصاعد الحقد الاجتماعي، فتنتشر الجريمة بكل صورها.
وأسوق لكم مثالا مهما آخر يجعلنا نفرق بين أزمة كساد 1929م وأزمة كساد 2008م، وهو أنه بحسب المؤشرات العالمية أيضاً، وعلى خلاف ما يعتقد أغلبنا، شهدت فترة أزمة كساد 1929م أدنى معدلات الجريمة!! ويفسر ذلك بأكثر من سبب، أولها أن الشريحة الأكبر من المجتمع الرأسمالي كانت في فقر مدقع، ولم يكن هناك تفاوت صارخ، فالفجوة بين الأغنياء والفقراء كانت آنذاك نحو 1 إلى 3، ولهذا وطالما أن أغلب أفراد المجتمع فقراء، فليس هناك ما يمكن سرقته، فالكل في الهم والغم سواء. والأمر الآخر، هو أنه في زمن الأزمة وحالة الفقر، يحاول كل فرد جاهداً الحفاظ على ما لديه، أي أنه يزيد من تكلفة ارتكاب الجريمة على المجرم، فتقل معدلات الجريمة.
ويذكر أنه لوحظ في كندا خلال الكساد العظيم (1929م) وانتشار الفقر أن أصبح الأفراد في عون بعضهم بعضا، ولم تنتشر الجريمة. أضف إلى هذا أن الكثير من المفكرين والعلماء والفنانين والفلاسفة ولدوا فقراء. كما أن أعظم اللصوص في التاريخ كانوا من الأثرياء وأصحاب سطوة ونفوذ. إذاً لا ينبغي التعميم بشأن العلاقة بين الفقر والجريمة، فالأهم من الفقر هو التفاوت الصارخ.
أما في ظل أزمة كساد 2008م، التي لم ننته منها بعد، فقد حلت علينا والعالم والمجتمعات، منقسمة إلى قلة قليلة غنية غنى فاحش وقاعدة عريضة فقيرة فقر مدقع، وهنا مكمن الكارثة والخطر، فإذا كنا قد قلنا إن الفجوة خلال أزمة كساد 1929م كانت 1 إلى 3، فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في مطلع الألفية بلغت أكثر من 1 إلى 60!! التفاوت الصارخ يمكن أن نستشعره, سواء بين الدول، حيث قلة قليلة من الدول الغنية في مقابل أغلبية ساحقة من الدول الفقيرة، أو على مستوى المجتمع الواحد، حيث تضاعف عدد المليونيرات وهم قلة في مقابل تحول ما كانت تسمى بالطبقة الوسطى إلى طبقة معدمة.
وكارثة كبرى عندما تتلاشى الطبقة الوسطى وينقسم المجتمع إلى قلة مترفة وقاعدة معدمة، فالطبقة الوسطى هي رمز الوسطية والاعتدال في كل شيء وهي صمام الأمان من خلالها يستقر ميزان المجتمع. فبماذا وصفنا المولى - عز وجل - في كتبه الكريم ''وكذلك جعلناكم أمة وسطا''. هل يستطيع منصف الحديث الآن عن طبقة وسطى، وهل ينتظر استقرار أوضاع عالمنا ومجتمعاتنا في غياب هذا الميزان الحساس!!
هذا فارق جوهري بين أزمة 1929م وأزمة 2008م، ولهذا لو طبقنا قول كارل ماركس فعلينا أن نتوقع ممن يعيشون في الأكواخ المحيطة بالقصر، ألا يستكينوا بل ستتصاعد المشكلات والجرائم بصورها كافة. والمؤشرات العالمية الراهنة تؤكد هذا التحليل، ففي مختلف دول العالم الرأسمالي المتقدم والمتخلف، تصاعدت معدلات الجريمة بشكل مخيف خلال السنوات القليلة التي سبقت وقوع الأزمة ''والتي بدأت بأزمة الغذاء''، ثم تصاعدت بشكل أكبر بعد وقوع الأزمة، نظراً لقناعة الفقراء أن كروش الأغنياء لم يغذيها سوى الظلم والفساد.
نفهم من هذا أنه للخروج من الأزمة العالمية الراهنة، ولضمان عودة سريعة للدورة الاقتصادية، لا بد من التعامل مع متغير مهم للغاية ربما يغيب عن الكثيرين ألا وهو إعادة توزيع الموارد، فالموارد تتركز في يد القلة، ومهما بلغ حجم إنفاق تلك القلة، فلن يؤثر في نشاط السوق، نظراً لأن طلب غالبية المجتمع (الفقراء والعاطلين) معطل، ولهذا، فإن إعادة التوزيع، بفرض المزيد من الضرائب على من تتعدى دخولهم أو ثرواتهم حدا معينا، يشكل مطلباً ضرورياً لإعادة الحياة للنشاط الاقتصادي، وفي الوقت نفسه تحقيق قدر من السلام الاجتماعي، ومن ثم الحد من معدلات الجريمة.
فالتفاوت الصارخ والمدرك بين القلة التي تملك وتمرح في زمن الأزمات، والغالبية التي يطحنها الفقر لن يفرخ سوى الجريمة بصورها كافة، والحقد الاجتماعي، ولهذا على الأغنياء التحرك الجاد نحو إشعار الفقراء بأنهم يستشعرون احتياجاتهم وظروفهم، من خلال مختلف السبل كالتبرعات ودفع الضرائب المستحقة، وإقامة المشاريع الخيرية التي تشغل العاطلين، المهم هو أن يتحقق مستوى ما من إعادة التوزيع يضمن تحقيق الوئام الاجتماعي وفي الوقت نفسه ينشط الدورة الاقتصادية. والله الموفق.

1

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي