الحماية من الإفلاس فقهاً وقضاء (2 من 3)

أشرت في مقال الأسبوع الماضي إلى أن الأزمة المالية العالمية حين أطاحت بضحاياها من الشركات المالية, قامت عدة شركات أمريكية رسمياً بإجراءات إشهار إفلاسها؛ وذلك للاحتماء بالبند الحادي عشر لتفادي التصفية, وذكرت أنه لما بدأت بوادر الأزمة تطل على بعض شركاتنا المحلية ظهر من يطالب بضرورة إيجاد نظام يحمي هذه الشركات من الإفلاس, وذلك على غرار البند الحادي عشر الخاص بحماية الشركات الأمريكية من الإفلاس, ثم أشرت إشارة سريعة إلى موقف الفقه من الحجر والإفلاس, ثم أنهيت مقالي السابق بهذا التساؤل الذي يشكل محور الموضوع, وهو: هل نحن بحاجة فعلا إلى البند الحادي عشر الأمريكي لنحمي شركاتنا المحلية من الإفلاس؟
وأحب أن أنبه هنا إلى أني لم أقف على ترجمة حرفية لهذا البند أو الفصل, ولكني وقفت في بعض المواقع الإلكترونية (على ما قالت) إنه أبرز النقاط الواردة في هذا الفصل الحادي عشر, وهي:
1- (أن هذا البند يسمح للشركات بإعادة تنظيم نفسها في إطار قوانين الإفلاس الأمريكية. وتستطيع جميع أنواع الشركات -حتى الأفراد - اللجوء إليه, فعند فشل شركة ما في تسديد المبالغ المستحقة على ديونها, فإنها تستطيع - كما يستطيع الدائنون أنفسهم - التقدم بطلب للحماية إلى محكمة إفلاس اتحاديه.
2- يسمح النظام في معظم الأحيان بإبقاء عمليات الشركة تحت سيطرة المدين وملكيته, ولكن تظل تحت مراقبة المحكمة, وسلطتها التشريعية. وطبقا لهذا الفصل فإنه يمكن للمدين العمل كوصي على شركته إلا إذا تم تعيين وصي خارجي لسبب ما.
3- يملك المدين الأدوات لإعادة هيكلة شركته, ويستطيع الحصول على تمويل وقروض ميسرة, بشرط إعطاء الممولين الجدد أولوية في الحصول على أرباح الشركة, وقد تعطي الحكومة المدين حق رفض أو إلغاء عقود.
4- يتمتع المدين بحماية من دعاوى قضائية ضد شركته, وذلك عن طريق فرض ما يسمى بوقف التنفيذ.
5- إذا فاقت الديون أصول الشركة, ولم يتبق لمالكها أي أموال, فإنه يتم إنهاء حقوقه, وتنتقل ملكية الشركة للدائنين, بعد إعادة هيكلتها بما يتوافق مع قانون الإفلاس) أهـ.
إن من يسمع أو يقرأ لمن يطالب بضرورة فرض نظام للحماية من الإفلاس - على غرار الفصل الحادي عشر الأمريكي- يظن من أول وهلة أنه لا يوجد لدينا نظام يساعد الشركات المحلية على تجاوز محنتها المالية, مع العلم أن لدينا نظاماً صدر قبل 14 عاماً, وتحديدا عام1416هـ, يسمى نظام"الصلح الواقي من الإفلاس" ويختص بتطبيقه ديوان المظالم, وأحب أن أتطرق لهذا الموضوع من زاويتين:
الأولى: من زاوية اسم النظام, والثانية من زاوية موضوع النظام.
أما اسم النظام, فنجد أن هناك تعبيرين اثنين:
أحدهما: التعبير الأمريكي بنظام (الحماية من الإفلاس) إن صحت نسبة هذه التسمية إلى الفصل الحادي عشر, إذ ربما تكون هذه العبارة متداولة كتعبير عن موضوع البند أو الفصل, وليست اسما له تحديدا, على كل حال, هذا على فرضية صحة النسبة.
والثاني: التعبير بنظام (الصلح الواقي من الإفلاس).
ففي تقديري أن تسمية النظام بـ (الصلح الواقي...) أولى من تسميته بـ (الحماية..) لأننا لا نؤمن بتفاصيل النظام الرأسمالي الذي (يحمي) أصحاب رؤوس الأموال - أفراداً أو شركات - من دائنيهم رغماً عن أنوفهم, وإنما نؤمن بنظام إلهي عادل, يجري صلحاً بين الدائنين والمدينين, على طاولة المفاوضات بينهما؛ وذلك أن المدين إذا كان على حافة الإفلاس, ودخلت رؤوس أمواله في خطر محقق, فهنا تتعلق حقوق الدائنين في أمواله؛ لئلا تتبخر بفعل ممارسات المدين غير المسؤولة, ولذا, فإنه إذا أراد المدين أن يحتمي من الإفلاس, فعليه أن يلجأ إلى دائنيه - أصحاب الحق - لا أن يحتمي بالقانون, ليفوت الفرصة عليهم..!
أما بالنسبة لمضمون النظام السعودي (الصلح الواقي من الإفلاس) فأرى أنه قد حقق المقصود, من تهيئة الأجواء المناسبة لإعطاء المدين فرصة ليلتقط أنفاسه, ولكن ليس من خلال فرض القانون الملزم للدائنين, وإنما من خلال الصلح معهم, للوصول إلى حلول وسط, تحقق رغبة الطرفين؛ الدائن والمدين, على حد سواء.
وقبل تسليط الضوء على نظام (الصلح الواقي من الإفلاس), أحب أن أنبه إلى أنه يوجد لدينا في المملكة ثلاثة أنواع للصلح لمعالجة قضية الإفلاس:
1- الصلح الودي, وهو الذي يكون بين المدين ودائنيه خارج أروقة المحاكم الشرعية, تفاديا من وقوع الإفلاس.
2- الصلح البسيط, وهو الذي يقع في ديوان المظالم بعد إعلان الإفلاس, والهدف منه: محاولة تحقيق مصلحة الخصمين (الدائن والمدين), وذلك بالاتفاق على تسديد مبلغ معين, وإسقاط بعض الدين, أو تقسيط أجزاء منه..., كما أشارت إليه المادة الخامسة والعشرون بعد المائة من النظام (العجوز) للمحكمة التجارية, وبعد ذلك تقرر المحكمة رفع الحجر عن المفلس. وقد يقع هذا الصلح البسيط في المحاكم التابعة لوزارة العدل, فيما إذا لم تكن المطالبة لشركات, أو كانت لتجار في قضايا عقارية, فيصلح القاضي بين الدائن والمدين قبل أو بعد الحجر على ممتلكات المدين؛ لأن مصطلح الإفلاس أو نظام الإفلاس مطبق في ديوان المظالم, أما في المحاكم العامة, فيوجد مصطلح الحجز على الممتلكات أو الحجر عليها, وهو في الواقع أثر من آثار الحكم بالإفلاس وإن لم يكن معروفاً بهذا الاصطلاح حرفيا.
3- الصلح الواقي من الإفلاس, وهو الذي يقع في ديوان المظالم, وهو محل حديثنا, وعرفه بعض الباحثين بأنه (عقد يبرم بين المدين وأغلبية الدائنين, يصدق عليه ديوان المظالم, يتضمن تقسيط الديون, أو تأجيل مواعيد استحقاقها, أو الإبراء من جزء منها, أو هذه الأمور مجتمعة) ولهذا النظام 18 مادة, ويحرم من ميزة هذا الصلح الواقي كل تاجر ظهر منه سوء النية, أو كان مبذراً ومسرفاً في مصاريفه الشخصية أو العائلية, أو كان مهملاً في الرقابة على موظفيه وعماله... إلخ, ولئلا أطيل في سرد هذه المواد النظامية, فسأقتصر على أبرز ما جاء فيها من نقاط:
أ‌- بموجب المادة الثانية من هذا النظام, فإنه إذا تعذر إجراء الصلح الودي, أو رأى التاجر(فرداً كان أو شركة) أن من مصلحته ابتداءَ طلب التسوية الواقية من الإفلاس, كان له أن يتقدم إلى ديوان المظالم, ويطلب إليه أن يدعو دائنيه ليعرض عليهم تسوية واقية من الإفلاس. وبالنسبة للشركات, فإن التسوية تطلب من أغلب الشركاء في شركة التضامن, وشركة التوصية البسيطة, ومن الجمعية العمومية العادية في الشركات الأخرى.
ب‌- بموجب المادة السابعة, لا تنعقد التسوية الواقية إلا بموافقة أغلبية الدائنين, بشرط أن تكون الأغلبية حائزة لثلثي الديون العادية, غير المتنازع عليها. ويلاحظ هنا: أنه لابد من الأغلبية العددية (أكثر من نصف الدائنين) حماية لصغار الدائنين من أصحاب رؤوس الأموال, ولابد من الأغلبية القيمية, أن يكونوا حائزين على ثلثي الديون.
ت‌- بمقتضى المادة الخامسة يبقى التاجر بعد صدور قرار افتتاح إجراءات التسوية قائماً على إدارة أعماله تحت إشراف الرقيب.
ث‌- بمقتضى المادة الخامسة, لا يجوز للتاجر بعد صدور القرار أن يعقد صلحاً أو رهناً, أو كفالة, أو أن يتبرع بشيء من ماله أو أن يجري تصرفاً ناقلاً للملكية لا تستلزمه أعماله التجارية إلا بعد حصول الإذن من القاضي المشرف على التسوية, وذلك حفاظاً على مصلحة الدائنين.
ج‌- بمقتضى المادة السادسة, لا يترتب على صدور افتتاح إجراءات التسوية حلول آجال الديون التي على المدين.
ح‌- بموجب المادة الثانية عشرة, فإنه يحق لكل ذي مصلحة طلب إبطال التسوية إذا اكتشف بعد التصديق عليها من ديوان المظالم وجود تدليس من جانب المدين, وذلك خلال سنة من التاريخ الذي يكتشف فيه التدليس, ويعتبر تدليساً على وجه الخصوص: إخفاء الأموال, أو افتعال الديون, أو تعمد المبالغة في تقديرها.
علماً بأنه يوجد في النظام, وفي البيان التوضيحي الملحق به, العديد من التفاصيل الأخرى, ومنها: أن مصادقة الديوان على الصلح الواقي يكون بعد توافر الشروط النظامية والاتفاقية, وأن الديوان إذا صادق على الصلح أصبح نافذاً, وأن التاجر يستعيد كامل أهليته في مباشرة تجارته بعد إنهاء إجراءات الصلح الواقي, وأن شهر الإفلاس يظل ممكناً إذا فسخ الصلح الواقي لعدم تنفيذ شروطه, أو أبطل, أو توقف المدين عن دفع الديون التي لا يسري عليها الصلح, وأن للدائنين طلب فسخ الصلح متى أخل المدين بالتزاماته المقررة في عقد الصلح, وأن الفسخ لابد أن يصدر به حكم من ديوان المظالم بناء على طلب من الدائنين, وأن القاضي ليس محتماً عليه الحكم بالفسخ, بل له كامل الحرية في تقدير وجاهة أسباب الفسخ... إلخ, فإذن هذه الأحكام كلها - وغيرها مما لم يذكر- قد هيأت أجواء تصالحية, يخيم عليها جو العدالة, ومراعاة جانب الدائن والمدين على حد سواء.., وهنا أصل إلى تساؤل مهم, وهو: أيهما أكثر عدالة نظام الصلح الواقي, أم البند الحادي عشر؟ وأيهما أرفق بالتاجر المدين نظام الصلح الواقي, أم البند الحادي عشر؟ وهل للشارع الحكيم موقف من حماية المدين من الإفلاس؟
هذا ما سيكشف عنه المقال القادم ـ بإذن الله تعالى ـ, مع الرجاء لمن لديه ترجمة حرفية لبند الحماية من الإفلاس أن يزودني بها مشكورا, حتى تكون المقارنة مستوعبة, وعادلة, وفي أمان الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي