تطور المائدة يفسر تطور العلاقات البشرية
ينظر إلى أي حديث عن الشؤون المطبخية بصفته أحاديث نسائية خاصة، وأضحى الطبيخ، في أفضل الأحوال، مختزلا في مجرد استجابة للحاجة البيولوجية، بعد أن كان الموضوع، ولقرون عدة، حكرا على علية القوم والنخب الثقافية داخل المجتمع. هكذا نجد لدى الفلاسفة كما الأدباء والشعراء نصيبا ومساهمة في "الأدب المطبخي"، وذهب بهم الأمر حد اعتماد الطعام مفتاحا لبلورة مواقفهم الفلسفية، وتحليل القضايا والظواهر الاجتماعية.
ألم يعتمد ابن خلدون على الموارد الغذائية في تقسيم الناس إلى أهل الخصب "المدن والأمصار" وأهل القفار "الصحاري والجبال"، مقدما هؤلاء على أولئك في المنزلة، فـ"أهل القفار أحسن حالا في جسومهم وأخلاقهم من أهل التلول: ألوانهم أصفى وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن وأخلاقهم أبعد من الانحراف وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات". وبلغ الأمر بالرجل مستوى إفراد فصل مستقل، في الكتاب الشهير عن مراحل تشكل وسقوط الأمم، للحديث عن الطعام وعلاقته بأخلاق البشر.
واستعان من بعد عالم الاجتماع كلود ليفي شتراوس بتطور المائدة، ليفسر تطور العلاقات البشرية، إذ مثلت لحظة الفصل بين مرحلتي الاقتتال والسلام في حضرة الطعام. ففي البدء، كان تناول الطعام بناء على نتيجة الصراع والقتال، بين القبائل والشعوب، من يصل إليه أولا. ثم ما لبث أن تحول إلى لحظة متعة ومشاركة والتئام حول مائدة، والمائدة هنا ليست بالضرورة كما نعرف اليوم، فكل موضع للطعام "صخرة، جذع شجرة، قطعة قماش.." يلتف حوله نفر من الناس يتشاركون الأكل، يصبح مائدة. مع الزمن، سيتحول الاشتراك في "الخبز والملح" إلى عبارة للعتاب بين الأصدقاء، فتناول الطعام أساس العروة الوثقى بين الخلان.
يعد الطعام، من وجهة نظر الإنثروبولوجيا، أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان، وذهب بعضهم أبعد من ذلك حين عد أن "للحيوانات ذاكرة، وملكة حكم، وجميع الملكات والانفعالات التي تحوزها عقولنا بدرجة معينة، ولكن لا يوجد حيوان واحد طباخ". ويبقى نجاح الإنسان في استعمال النار لتحويل الطعام إلى شيء مغذ ولذيذ نشاطا إنسانيا صرفا، صار مع مرور الزمن أساسا يصنع الفارق، فـ"كل طعام مطبوخ ينتمي إلى ثقافة، ولذلك كما تفرد الإنسان باللغة الإبداعية على سائر الحيوانات، فإنه انفرد أيضا بقدرته على الطبخ".
استعادت الأكاديمية كاثي كوفمان مؤلفة "الطبخ في الحضارات القديمة" موقف ابن خلدون، حين عدت المطبخ منطلقا لفهم تركيبة الإنسان وتاريخه، "حتى نفهم أنفسنا، ينبغي بالطبع أن نبدأ من الطعام الذي يشكل قوام وجودنا". بذلك يكون المطبخ في كل حضارة المختبر الأول لإبداعاتها، ونزعاتها الثورية أو المحافظة، لدرجة أن الفيلسوف الإيطالي فيليبو مارينيتي راهن على الطعام من أجل الثورة على الواقع، بتحويل إيطاليا إلى إمبراطورية مهيمنة في حوض الأبيض المتوسط، وذلك بمنع المعكرونة عن الإيطاليين واستبدالها بالأرز.
ارتباطا بالطعام في إيطاليا لا بأس من الإشارة إلى التقدير الاستثنائي الذي يحظى به الطعام في هذا البلد، فهو حاضر بقوة في حياتهم اليوم، في انتصاراتهم وهزائمهم، وفي أحاديثهم وأمثالهم اليومية، فلمن يجد صعوبة الشرح والتوضيح يقولون: "قلها كما تأكلها"، ولمن يعجز عن مواجهة الصعاب "الحياة أبسط، تناولها ببساطة مثل قطعة بيتزا". وحضر الطعام حتى في محطات القطار، باختيارهم أشهر الأطعمة والمشروبات أسماء لبعضها. يفسر هذا إلى حد ما قول الموسيقي الإيطالي جواكينو روسيني، بأنه مستعد لأن يبادل إحدى مقطوعاته الموسيقية بطبخة شهية.
ليست إيطاليا وحدها من تحتفي بالطعام، إذ سبقها العرب القدماء، في مختلف العصور، إلى المسألة التي حظيت بنصيب وافر في التراث العربي، جعلهم يتفننون في الأسماء بحسب السياق، ففي "فقه اللغة وأسرار العربية" لأبي منصور الثعالبي نقرأ: "طعام الضيف القرى، وطعام الدعوة المأدبة، وطعام الزائر التحفة، وطعام الإملاك الشندخية، وطعام العرس الوليمة، وطعام الولادة الخرس، وعند حلق رأس المولودة العقيقة، وطعام الختان العذيرة، وطعام المأتم الوضيمة، وطعام القادم من سفر النقيعة، وطعام البناء الوكيرة، وطعام المستعجل قبل أوان الغداء العجالة...".
وحضر الطعام موضوعا في النصوص التراثية بقوة، فعلى سبيل المثال لا تكاد تخلو صفحة من صفحات "البخلاء" للجاحظ من إشارة إلى دعوة أو مأدبة، ومن وصف للون من ألوان الطعام، ما دفع العرب القدامى نحو تأسيس نوع أدبي قائم الذات باسم "آداب المأدبة"، من أشهر ما وضع فيه "دعوة الأطباء" للمختار بن الحسن بن بطلان، و"حكاية أبي القاسم البغدادي" لأبي المطهر الأزدي، دون إغفال مقامة بديع الزمان الهمذاني "المضيرية"، حيث يمتزج الكلام بالطعام إلى حد أن يمتص الأول الثاني، ما حال دون أبي الفتح الإسكندري وأكل المضيرة.
في التراث العربي دائما، مصنفات في الطبخ وفنونه، تكشف مدى عناية العرب بالطعام والضيافة وشؤون المأكل والمشرب. لكن مع الأسف الشديد ضاع أغلبها، فقد صنف كتاب ابن سيار الوراق بعنوان "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات، ما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب" أقدم مؤلف متخصص في الموضوع. واشتهر في مصر كتاب "كنز الفوائد في تنويع الموائد" للمؤلف المجهول، ونذكر من بلاد الأندلس مؤلفا لأبي القاسم ابن رزين التجيبي "فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان".
عاد الاهتمام بالطبخ بقوة، في عالمي الأدب والفلسفة، في الأعوام الأخيرة، ونذكر هنا كتاب "بطن الفلاسفة" للفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري الذي تعرض فيه بأسلوب مرح لأطعمة الفلاسفة، واستند إليها- فيما يشبه تطبيقا لفكرة ابن خلدون– في معرض تفسيره لفلسفتهم في الحياة بناء على أنظمتهم الغذائية. فأفلاطون، ورغم اعترافه بأن الطبخ المتكرر معرفة جوفاء، لا يتردد في الإقبال على الأطعمة المنتشرة في محيطه. عكس ذلك، يميل الفيلسوف جون جاك روسو إلى التخفيف من الأطعمة، فالأكل مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة، ولا يتردد في القول بأن "الإنسان هو ما يأكله"، ويذهب بناء عليه إلى تفسير عنف أو سلمية البشر استنادا إلى الطعام. وحافظ إيمانويل كانط على فلسفته المثالية حتى في علاقته بالطعام، حيث اكتفى بتناول وجبة واحدة في اليوم، داعيا الإنسان إلى مقاومة شهواته والتخلي بالعزيمة سعيا وراء الحكمة.
في عالم الأدب تزايد حضور الطعام بدءا من القرن الـ19، فلا تكاد تخلو رواية من مأدبة، حسب الوضع الاجتماعي للأشخاص، في مطاعم فاخرة وصالونات بهية، أو في بيوت وأماكن متواضعة. ثم ما لبث الطبخ أن أضحى، في العقود الأخيرة، صيحة عالمية في عالم الرواية، وحققت هذه الأعمال شهرة منقطعة النظير، كما هو الحال مع ملحمة الصيني لو وين فو، الذي يمزج بين الطعام والثورة والسياسة في الشأن الصيني، في رواية "الذواقة" (1983)، أو في رائعة "كأنه الماء للشوكولا" (1989) للمكسيكية لورا إسكيبيل، حيث يصبح الطهي وسيلة تعبيرية مكنت امرأة من التعبير عن مشاعر حب دفين تجاه رجل. ومنحت الرواية الشيلية إيزابيل الليندي الطعام اهتماما خاصا في روايتها "أفردويت" (1997)، وقبل أعوام فقط صنع السويسري مارتين زوتر الحدث برواية "الطباخ" (2010)، التي تحولت بعد أربعة أعوام إلى فيلم سينمائي.
أعمال روائية لمبدعين من مختلف بقاع العالم نجحت في تكريس الطبخ في المتن الروائي، ليتوالى التأليف في الموضوع فكتبت اليابانية ريوكو سيكجوشي "الأكل الشبحي" (2012) ثم "نادي الأكولين" (2019)، وقبلها أبدع الهندي جاسبريت سينج رائعته "الشيف" (2010) وهلم جرا من العناوين التي تثبت صدق مقولة الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو "الطعام، شأنه شأن السرد والأدب، يمنح الحياة، لكنه قد يعرض للموت".