«الجوع» و«الأجواء القارسة» .. النسخة الثانية من الحرب الباردة

«الجوع» و«الأجواء القارسة» .. النسخة الثانية من الحرب الباردة

أدت جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية والصحية إلى إعادة تموضع الكيانات السياسية في العالم، بعد الخسائر الكبيرة في الأرواح والأموال في أغلبية الدول، حيث فرضت أزمات جديدة نفسها على الساحة العالمية، كادت أن تعيد إلى العالم ذكريات المجاعات، بسبب المخاوف من نقص الإنتاج والإمدادات. لكن في ظل الصحوة من تبعات الوباء، قررت روسيا خلط أوراق اللعبة، ومباغتة خصومها السياسيين، ليعيش العالم الفصل الأول من الحرب العالمية الباردة الثانية.
تسببت الحرب الروسية في أوكرانيا في بداياتها في إيقاف الصادرات الأوكرانية من الحبوب، مع زيادة مفرطة في الأسعار، ليشهد العالم أزمة تضخم اقتصادي، بعد العودة من فترة الركود بسبب الجائحة، واستنزاف مكتنزات الدول على القطاع الصحي، لتظهر أزمة غذائية أخرى، بفساد المحاصيل الزراعية في الهند، نتيجة للتغيرات المناخية والاحتباس الحراري، لتتجه الدول المعتمدة على الاستيراد إلى التحول عن فكرة الاعتماد الكلي على حليف غير مضمون.
من المبكر الحديث عن نظام عالمي ثنائي القطب، لكن إعادة الاصطفاف في المشهد الدولي، أصبحت ضرورة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا والانحياز الغربي الرسمي معها، ليكون العالم على أعتاب بوابة الحرب العالمية الباردة الثانية، بعد مضي نحو ثلاثة عقود على انتهاء الأولى بتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، بين اللاعبين الرئيسين فيها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وريثة الاتحادية وريثة الحلم السوفياتي.
أمريكيا، تعيش واشنطن حالة تخبط سياسية داخلية وخارجية بسبب تعاقب الإدارات السياسية للبيت الأبيض، وكلما أتت إدارة جديدة زاد الوضع العالمي تعقيدا، حيث أدت إلى انقلابات جذرية في السياسة الخارجية تجاه عدد من الملفات الكبرى. وعلى الرغم من الاختلاف بين سياسات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلا أن الولايات المتحدة شهدت تحولا كبيرا بعد مجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي زاد من مخاوف الحلفاء، بعد فرض رسوم جمركية على الصادرات ونحوها، وكذلك سحب وجوده العسكري من مناطق عدة من العالم، آخرها منطقة شرق الفرات.
إدارة الرئيس جو بايدن جددت شعور الشك والريبة بالتحالف مع واشنطن بعد انسحابها من أفغانستان، وكذلك تخليها عن وعودها بضم أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي، واتجاهها نحو عدم المواجهة المباشرة مع موسكو، والاكتفاء بالدعم السياسي واللوجستي، لتكون أوكرانيا وحيدة في وجه الدب الروسي، الذي يصر على إعادة بناء الهوية الروسية بدءا من عاصمة القيصرية الأولى كييف.
روسيا، قدم الرئيس الروسي نفسه كحليف موثوق لكل من يرغب في الوقوف معه، لتكون النتيجة بناء تحالف روسي شرقي في منطقة الشرق الأوسط، أساسه التوازن مع الأصدقاء في المنطقة، مدعوما بتحالف صيني، مدعوما شعبيا من قبل اليمين الأوروبي، الراغب في التخلص من السطوة الأمريكية.
وبسب هذه المتغيرات تمر الساحة الدولية بحالة تنافس بين الأنظمة، حيث اكتفت واشنطن بفرض عقوبات على موسكو بسبب حربها على كييف، لكنها لم تتجه نحو التصعيد، والتدخل تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة لحماية المدنيين في أوكرانيا، وكذلك سبق عدم اتخاذها موقفا من الدخول الروسي على خط الأزمة السورية، كما أسهمت التجاذبات بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونجرس، في زيادة صعوبة مهمة بايدن بالمضي قدما في إقرار مساعدات فعالة للجانب الأوكراني كما في بداية الحرب.
صينيا، أرسلت واشنطن نانسي بيلوسي رئيسة مجلس نوابها إلى تايوان، لكنها لم تكبح جماح بكين بمحاولات ضم الإقليم المخطوف - كما يوصف صينيا -، التي تسير على خطى موسكو، بالتوسع الجغرافي الاستراتيجي، للتخفيف من السطوة الأمريكية على بحر الصين وتقليل نفوذها هناك، لتعود حمم هذه الأزمات النائمة إلى النشاط مجددا، في ظل الصعود الصيني اللافت اقتصاديا وعسكريا، الذي بات قوة لا يمكن تجاهلها.
التضارب في المصالح، وقيادة المعسكر الشرقي ضد واشنطن، يعيش اضطرابا هو الآخر، فالصين حذرة من التقارب الروسي - الهندي، وقد يؤدي إلى تغيير في مسارات التحالف الاستراتيجي الذي تسعى إليه موسكو وبكين حاليا. وعلى الرغم من اختلاف المصالح الجيو استراتيجية بين موسكو وبكين، إلا أنهما متفقتان على منازعة التفرد الأمريكي في قيادة العالم، ما يعطي انطباعا واضحا بتوسيع التحالفات نحو آسيا وأمريكا اللاتينية، وكذلك إفريقيا والشرق الأوسط.
شهد العالم ولادة تحالفات فرعية سياسيا واقتصاديا، وجلها للتخفيف من السطوة الأمريكية، كالاتحاد الأوراسي، ومنظمة شنغهاي، والتحالف الهندي الروسي الصيني في المحيط الهندي والهادي، وكذلك منظمة الدول الناطقة بالتركية، هذه التحالفات تبحث عن حاضنة أكبر لها. والاصطفاف في أحد المعسكرين سيكون سقفا لطموحها، لكن على غرار ذلك تقود واشنطن تحالفات ضد روسيا والصين.
أوروبيا، بلا شك يشهد العالم انقساما بين المعسكرين الشرقي والغربي، والسطوة الأمريكية على الغرب دفعت الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى رفع صوتها، وإعادتها إلى المشهد بعد فوز جورجيا ميلوني بمنصب رئيسة الوزراء في إيطاليا قادمة من خلفيات فاشية، تحمل ذكريات سيئة مع واشنطن والنظام الغربي الحليف لها، في الوقت الذي تشهد فيه أوروبا تضاربا في المصالح بين ألمانيا وفرنسا من جهة، وفرنسا والمملكة المتحدة من جهة أخرى.
الأزمات الأوروبية الداخلية غير قادرة على إخراجها من عباءة واشنطن، لكن ملف الطاقة يفرض نفسه على هذه الدول بعد قطع الغاز الروسي عنها، الذي كانت تحصل عليه بأسعار تفضيلية، مع وأد خط غاز نورد ستريم 2، لتجد الدول الغربية نفسها في مأزق داخلي مع قدوم الشتاء والأجواء الباردة، خصوصا في ظل تخفيض منظمة أوبك وأوبك بلس، معدلات الإنتاج.
أخيرا، الملف الشرق أوسطي في حالة صمت قد لا يدوم طويلا، وأي إعادة تشكيل أو اختلاف في قواعد اللعبة الدولية، ستتبعها تأثيرات بالغة الأهمية في هذه المنطقة من العالم، حيث فرضت تبعات الحرب الروسية على أوكرانيا خصوصا في ملف الطاقة، ميولا جديدة للدول الغربية ومنافسيها في المعسكر الشرقي، بالتنافس على مصادر الطاقة، في ظل تناقض غربي كبير فيما يتعلق بسياساتها المناخية، لكن الالتزامات الدولية أمام المصالح تبقى حبرا على ورق، والمخاوف الحقيقية تتمثل في تعقيد المشكلات التاريخية القائمة.
المشكلة التاريخية الأطول عمرا، والأكثر مركزية للعرب هي القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، اللذان سيفرضان أنفسهما بقوة في حال حصلت أي تغييرات في موازين القوى، كما تعيش المنطقة صراعا آخر على صعيد النفوذ بين إسرائيل وإيران، ما يعيد المنطقة كبؤرة للصراعات في العالم، تصل تداعياتها نحو مزيد من الانقسام الدولي على النفوذ، ما يجعل العالم أكثر توجها نحو الحرب العالمية الباردة الثانية، التي قد تجبر أحد المعسكرين على إشعال شرارة الحرب العالمية الثالثة.

الأكثر قراءة