«رجل تتعقبه الغربان» .. رواية تنتهي من حيث بدأت

«رجل تتعقبه الغربان» .. رواية تنتهي من حيث بدأت
جانب من اللقاء الذي أدارته الروائية الدكتورة زينب الخضيري.
«رجل تتعقبه الغربان» .. رواية تنتهي من حيث بدأت
«رجل تتعقبه الغربان» .. رواية تنتهي من حيث بدأت
يوسف المحيميد

متنقلا من طير إلى آخر، مؤرخا ومتتبعا لأحداث وواقع معيش، ينسج الروائي يوسف المحيميد قصة جديدة، فمن رواية "الحمام لا يطير في بريدة" إلى الغراب الذي يتعقب رجلا في روايته الجديدة "رجل تتعقبه الغربان"، يسافر إلى عام 2048 مسترجعا مآسي الحروب والأوبئة، مثل حرب فلسطين التي شارك فيها السعوديون، إلى وباء كورونا الذي لم ولن ينساه العالم.
ضمن مبادرة "بيت الرواية"، المجموعة الأدبية المتخصصة، تحدث المحيميد عن أبطال روايته، العائلة النجدية، سليمان الزارع وابنته وحفيديه، الرجل الذي يعاني فوبيا الغراب ويخشاه، حتى عرف بلقب الرجل الذي تتعقبه الغربان، وعن اختياره الغراب ورمزيته.

جنازة تمر

للمحيميد تجربة طويلة وثرية في عالم الرواية، تمتد إلى أكثر من 20 عاما، حينما أصدر روايته الأولى "لغط موتى"، ثم تبعتها روايات فخاخ الرائحة، القارورة، نزهة الدلفين، الحمام لا يطير في بريدة، رحلة الفتى النجدي، غريق يتسلى في أرجوحة، أكثر من سلالم، ومجموعة أخرى من الأعمال القصصية.
وفي مسيرته نال جائزة أبو القاسم الشابي عام 2011، وكذلك جائزة ألزياتور الإيطالية، وجائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب في عام 2013، وترجمت رواياته إلى عدة لغات، منها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والرومانية والروسية والتركية.
أما روايته الأخيرة "رجل تتعقبه الغربان"، فكتبت بلغة سوداوية كما يصنفها البعض، ابتدأ فيها باقتباس من الشاعر العراقي عبدالكريم كاصد "أيها الغراب.. كف عن نعيقك.. جنازة تمر"، وبالمقولة النجدية "لا عيون إلا بعد جدري، ولا عيال إلا بعد حصباء".
تبدأ الرواية في المستقبل، وتنتهي في المستقبل كذلك، في فكرة يريد أن يقول من خلالها إن العالم هش، مستشهدا بمقولة جاك لندن الروائي الأمريكي "الأنظمة المتوارية تنهار مثل رغوة. نعم، رغوة ومتوارية. كل كدح الإنسان على الكوكب كان مجرد رغوة"، ويرى يوسف المحيميد أن الأوبئة والحروب كانت في كل مرحلة، حيث يكرر التاريخ نفسه، لكن بطريقة مختلفة.

بطل الرواية .. قتيل أم حي؟

ارتبط الغراب بالجثث التي يحوم حولها، ونذير الشؤم في الموروث العربي، لكن الغربان في هذه الرواية هي دسيسة مضمرة ورمز للموت، كما تراه زينب الخضيري الدكتورة الروائية، التي أدارت الحوار مع المحيميد، وعلق بأن الغراب هو أحد الكائنات غير الموجودة في الرياض، لكنه موجود في مدن أخرى في المملكة، مذكرا بظهور حيوانات مختلفة في دول العالم إثر جائحة كورونا، تتجول في المدن، فيما كان الإنسان حبيسا للجدران، على غير عادته.
"الغربان تتعقب الجثث، لكنها هنا تتعقب إنسانا حيا"، وفق تعبير الخضيري، ويستدرك المحيميد مجيبا بأن "ذلك إشارة ودلالة على أن هذا الشخص قد يكون قتيلا، وليس كائنا حيا، وقد يكون الغراب أيضا له رمزية ودلالات على الماورائيات"، تاركا مهمة البحث والتنقيب عن الغراب للقارئ نفسه.
ففي صفحات متقدمة من الرواية، يشير سليمان - نجم الرواية - إلى أشخاص يتشابهون مع الغربان، إذ يدون قائلا "لم تعد الغربان هي تلك الطيور التي تحلق وتتعب طول الوقت، بل حتى زميلي في العمل تضعف ساقاه وتحمران أحيانا ثم ينحني نحو الأرض شيئا فشيئا، وينبت حول ذراعيه ريش أسود، فتصبح مشيته في الممرات كمشية غراب يبحث في الأرض، أهرب منه من دون أن أفضي إليه بوساوسي، لكن الآخر.. الغراب يلاحقني بصوت غير مفهوم، صوت غامض يشبه النعيب".

النكبة وكورونا

تتعقب الرواية، الصادرة عن دار العين للنشر، أحداثا مهمة في تاريخ العرب، مثل نكبة فلسطين، وتتبع الأوبئة وتأثيرها في المجتمع، مثل الجدري والحمى والموت الأسود وكورونا وغيره. وكشف الروائي أن فكرة روايته بدأت من خلال محاولته رصد يوميات الناس لفترة فارقة، فترة الخوف والهلع من عدو لا مرئي، في زمن كورونا والحظر الكلي ومنع التجول، ثم تحولت إلى قصة وشخصيات وتاريخ وأحداث.. ثم رواية.
في اللقاء الذي أدارته زينب الخضيري الدكتورة الروائية، أشار يوسف المحيميد إلى أن دلالة الغربان السوداء والمدن البيضاء الميتة وغيرها من العبارات هي دلالات موجودة ورموز وضعها ليكتشفها القارئ، في مفارقات لافتة، منها ما سجله سليمان بطل الرواية في مذكراته، حينما تناول العاصمة بقوله "مدينة البهجة والمتعة (الرياض) صارت موحشة، ناسها يخرجون من منازلهم حذرين كلصوص، كماماتهم أقنعة تخفي ملامحهم، وقفازاتهم تنذر بجريمة محتملة، لم تكد الرياض تنهض من غفوتها التي استمرت 30 عاما، حتى لزم أهلها منازلهم بإرادتهم".
في طور استعداده للكتابة، قرأ المحيميد شهادات من نجا من حرب فلسطين عام 1948، التي شارك فيها الجيش السعودي بكتيبة ومتطوعين، ووجد فيها غرابة وحقائق كثيرة، متحدثا عن هذا الجانب في روايته، وهي جزء من التاريخ السعودي، ويستحقون أن يشار إليهم، لما قدموه من تضحيات، على حد تعبيره.

علاقة شائكة

"علاقتي بالعناوين هي علاقة شائكة، وأتعب كثيرا كي أصل إلى العنوان المناسب، وكل فترة أثناء الكتابة أضع عنوانا، وبنهاية كتابة الرواية أجد نحو عشرة إلى 15 عنوانا للراوية، فتبدأ عملية الغربلة، وأستعين ببعض القراء في هذه العملية، لأصل إلى العنوان النهائي"، هكذا يختار يوسف المحيميد عناوين رواياته، حيث يرسل عناوينه عن طريق "الواتساب" إلى قراء محترفين، دون أي مضمون آخر، فتتشكل الآراء والاختيارات.
وحول مفردة "تتعقبه"، يقول "إنه كان يريد أن يقول تطارده أو تتبعه، لكنه اختار كلمة تتعقبه لأنها تبدو أكثر رصدا، وهو الوصف الأكثر دقة للغربان التي تتعقب بطل الرواية".
أسلوب المحيميد خاص به، وله طقوسه وآلية عمله المتفردة، فبعد أن يفرغ من كتابة الرواية، يتركها مدة قد تصل إلى شهور عدة، ثم يعود لقراءتها كشخص مختلف كليا، قارئ محايد، ليتمكن من إيجاد مواطن الخلل وتصحيحها قبل أن ترى روايته النور، ولا يتوقف عن الكتابة حينما يبدأ روايته، بطبيعته يكتب يوميا، ولو سطرا واحدا على الأقل، فتكون بذلك الشخصيات حاضرة معه يوميا، وفي كل مكان.

رواية بانتظار مرجع تاريخي

لم يخف الروائي يوسف المحيميد أهمية البحث والعودة إلى المراجع والكتب قبل خوض الكتابة السردية، ويؤكد في حديثه "لأن المراجع قليلة، وأحيانا غير دقيقة، فإن الروائي يجب أن يكون باحثا تاريخيا، ومحللا نفسيا، وموسوعيا لينجز عمله"، كاشفا أمام قرائه أن له عملا روائيا بدأه منذ عشرة أعوام، وتوقف، بسبب عدم حصوله على معلومة دقيقة وصحيحة بين عامي 1902 و1904، وعدم حصوله على المعلومة تترتب عليه لغة الشخصيات وثقافتها وعالمها.
رواية "رجل تتعقبه الغربان" قريبة من روايته "فخاخ الرائحة"، العمل الذي قدم كثيرا للقارئ، مبينا أن الناشر أرسل عقد الاتفاق لنشر الرواية وتوزيعها قبل أن ينتهي من كتابتها، لكنه ظل ستة أشهر يفكر في توقيعه، منتظرا الانتهاء من الرواية، ثم يقرر النشر من عدمه، وكذلك فعل في روايات سابقة، منطلقا من قلق الكاتب على ما سيقدمه.
المحيميد اختتم لقاءه في صالون نادي الكتاب، معرجا على دور الوكيل الأدبي، ولا سيما أنه أول روائي سعودي يتعاقد مع وكيل أعمال أدبي أجنبي، هو الأمريكي توماس كولتشي في نيويورك، خلال الفترة من 2007 حتى 2009، وأكد أيضا أهمية دور المحرر الأدبي في العالم العربي، آملا تفعيله والاهتمام به والاستفادة من التجربة الغربية في هذا المجال، فالمحرر الأدبي لا يتولى تدقيق النص لغويا فحسب، إنما لديه مهام أبعد من ذلك وأعمق بكثير.

الأكثر قراءة