العالم محظوظ بالنجاة من مجاعة جماعية
هناك كثير من الأزمات العالمية المتكاملة من كل النواحي هذه الأيام لدرجة من المريح رؤية أن إحداها كان متوقعا حدوثها بشكل كبير، لكنها لم تحدث، أو لم تحدث بعد.
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد أثارت مخاوف وجيهة من حدوث أزمة غذاء عالمية مشابهة لتلك التي حدثت بين 2007 و2008. تشكل صادرات روسيا وأوكرانيا مجتمعتين نحو ثلث الصادرات العالمية من القمح، ويعتمد كثير من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، ولا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، على واردات الحبوب. فيما تتهم أوكرانيا والحكومات الحليفة لها روسيا بخطر التسبب في مجاعة عالمية تستخدمها كأداة جيوسياسية.
كانت الإمدادات الغذائية الدولية ضعيفة بالفعل بعد 2021 الذي شهد جفافا وضعفا في المحاصيل. فيما هبطت المخزونات العالمية من الحبوب، التي تعمل على تخفيف الصدمات في الإمدادات، إلى أدنى مستوياتها منذ عقد. أدى تغير المناخ لتقلبات في الظروف المساعدة لنمو المحاصيل بشكل متزايد. تحولت الهند هذا العام من الوعد بتزويد العالم بالغذاء في نيسان (أبريل) إلى فرض ضوابط على تصدير القمح في أيار (مايو) بعد ضعف المحصول لديها.
لكن الإنذار هدأ في النهاية. انخفضت أسعار المواد الغذائية العالمية التي يقيسها مؤشر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو" للشهر السادس على التوالي في أيلول (سبتمبر) إلى مستويات ما قبل الحرب.
هل كان ذلك نتيجة لسياسة جيدة أم حسن الحظ؟ هل تعلمت الحكومات دروسا من الفترة بين 2007 إلى 2008، عندما دفعت ضوابط التصدير المضطربة بالأسعار العالمية إلى الارتفاع؟ ما الدور الذي لعبته مبادرة حبوب البحر الأسود التي ترعاها الأمم المتحدة التي تم الاتفاق عليها في تموز (يوليو)، حيث سمحت روسيا بموجبها لأوكرانيا بتصدير القمح والذرة؟ وماذا عن قرارات فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي بداية بتعليق المبادرة ومن ثم عودته إلى الانضمام إليها؟
يبدو أن الجواب كان في الأساس هو الحظ. يشير جو جلوبر، الرئيس السابق للجنة التفاوض الأمريكية في مجال التجارة الزراعية الذي يعمل حاليا في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في واشنطن، إلى أن المحاصيل الممتازة في الدول الكبيرة المصدرة للحبوب في نصف الكرة الجنوبي - وهي أستراليا والأرجنتين والبرازيل - كانت تعمل على تخفيض أسعار الذرة والقمح بسرعة قبل إطلاق مبادرة البحر الأسود. في الوقت نفسه، انخفض خطر ارتفاع تكاليف الأسمدة على مستوى العالم بعد انخفاض أسعار الغاز الطبيعي، الذي يعد أحد مدخلاتها الرئيسة.
فيما كانت مبادرة البحر الأسود مفيدة لكنها لم تكن جذرية. ضاعفت أوكرانيا صادراتها من الحبوب، لكنها لا تزال تصدر أقل 50 في المائة مقارنة بـ2021. في الأسابيع التي أعقبت الإعلان، انخفضت أسعار القمح نحو 5 في المائة فقط، بعد أن استردت كل الزيادة البالغة 50 في المائة بين شباط (فبراير) حتى ذروتها في مايو.
ما يدعو إلى الطمأنينة على المدى القصير أنه حتى في حال وقوع انهيار آخر للمبادرة، فإنه لن يكون كارثيا. لكن في ذلك تأكيد أيضا على أن الأسواق العالمية ضيقة وأن المخزونات ستبقى منخفضة حتى دون قضية أوكرانيا. ربما تراجع مؤشر فاو إلى المستويات التي شهدها في فبراير، لكن ذلك كان مرتفعا من الناحية التاريخية، فهو يعد حاليا أعلى من متوسطه في 2020 بنحو 40 في المائة.
يصعب هنا أن نلقي اللوم على المؤسسات الدولية، التي عملت بإخلاص على تنشيط الحوكمة العالمية. إضافة إلى تسهيل التوصل إلى مبادرة البحر الأسود، واصلت الأمم المتحدة دعم نظام معلومات السوق الزراعية "أميس" المفيد، وهي خدمة مراقبة تهدف إلى طمأنة الحكومات المذعورة بعدم فرض ضوابط على الصادرات بسبب مخاوف لا أساس لها من نقص المحاصيل لديها.
كانت منظمة التجارة العالمية تحذر بصوت عال من المخاطر المترتبة على حظر التصدير. أطلق صندوق النقد الدولي نافذة خاصة للإقراض في حال وقوع صدمات غذائية للدول منخفضة الدخل المستوردة للأغذية التي تعاني مشكلات في ميزان المدفوعات، كما أنفق البنك الدولي كثيرا من الأموال على نحو مشابه.
لكن من الصعب أن ترى أي فرق جوهري تحدثه هذه المبادرات. للحكومات مجال واسع بموجب قوانين منظمة التجارة العالمية لفرض قيود على الصادرات، وهو وضع لم يتحسن كثيرا بسبب ضعف الاتفاق حول الأمن الغذائي في الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في حزيران (يونيو). عموما، زادت بعض الحكومات مثل حكومات الاتحاد الأوروبي من دعمها للإنتاج الزراعي، لكن ليس بشكل جذري يكفي لتوسيع إنتاج الأغذية القابلة للتداول.
إن هذه الفكرة مخيفة، لكن تجنب أزمة الغذاء في العام المقبل يعتمد بشكل أساس على الطقس الجيد. أصبحت الحكومات بشكل ما، بمساعدة من المؤسسات الدولية، أفضل في إدارة الإمدادات الغذائية العالمية، وذلك بعد اندلاع الأزمة الكبيرة السابقة قبل 15 عاما. لكن ذلك يخبرنا أن مرور عام أو اثنين من الجفاف قبل 2022 وضع الأسواق في حالة توتر شديدة. سيتعين على الحكومات أن تبذل مزيدا من الجهد حتى لا تهدد الصدمات بمجاعة جماعية، العالم محظوظ بالنجاة منها حتى الآن.