أين إفريقيا من أجندة المستثمر السعودي (العام والخاص)؟

لم يعد هناك من شك في أن الأزمة الطاحنة، التي ضربت عالمنا أخيرا، قد كشفت كل المستور والمسكوت عنه، وقد عرضنا في هذه الجريدة الغراء سلسلة من المقالات حول الأزمة من مختلف جوانبها. ركزنا في هذا المقال على قضية تنويع سلة الاستثمارات الوطنية في الخارج، بحيث تحظى فيها إفريقيا بحصة لائقة، لأسباب ترجع إلى إفريقيا، وأخرى ترجع قدرات إلى المستثمر الوطني، وثالثة ترجع إلى أسواق الاستثمار التقليدية. فلقد عكف المستثمر الوطني، على الاستثمار غير المباشر في أسواق تشبعت وأثقلتها الهموم والمشكلات، خاصة السوقين الأوروبي والأمريكي. من المؤكد أن لكل مرحلة ما يبررها، ولكن من المؤكد أيضاً أن المرحلة الحالية والقادمة، تتطلب رؤية واستراتيجية مختلفة.
إن ما عرضت له في هذا المقال، هو حصاد وخلاصة لدراسة لي، نالت جائزة المصرف العربي للتنمية الاقتصادية (الجائزة الأولى) في إفريقيا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي (2008م)، يشرفني عرض أبرز ما ورد بها لينتفع بها كل معنِي. فربما كان للمستثمر الوطني مبررات كثيرة في الماضي لتجنب السوق الإفريقي، شأنه في ذلك شأن باقي مستثمري العالم، ولكن الصورة تغيرت تغيراً جوهرياً في السنوات الأخيرة. وبناءً عليه، يُفترض أن تحظى إفريقيا بمكانة لائقة في استراتيجياتنا الاستثمارية لعديد من الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية، في مقدمتها:
أولاً: تتمتع إفريقيا بمساحة تزيد على 30 مليون كيلو متر، أي نحو 32 في المائة من مساحة العالم، كما أنها تنعم بثروات معدنية هائلة مثل اليورانيوم والماس والحديد والنحاس والكروم والنفط ومصادر للطاقة المختلفة، ورصيد هائل من المياه العذبة المتمثلة في الأنهار والبحيرات. أما عدد السكان فقد بلغ نحو 800 مليون نسمة، بمعدل نمو سنوي نحو 2.3 في المائة، كما بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في 2006م نحو 842 دولارا أمريكيا. وقد تحسن مناخ الاستثمار في عديد من دول القارة، خاصة الدول التي تحتل مكانة مرموقة على خريطة ومؤشرات الاستثمار العالمي، بدليل تدافع كبار المستثمرين في العالم نحو ذلك السوق الخصب، والتوقعات بنشوب صراعات بين القوى الاستثمارية الكبرى على السوق الإفريقي. فالكثير من الدول الإفريقية أصبحت تقدم نفسها للعالم كمثال حقيقي للديمقراطية والإصلاح شأن السنغال ونيجيريا وبتسوانا وناميبيا وموريتانيا وجمهورية جنوب إفريقيا وموريشيوس... إلخ.
ثانياً: أن المملكة تمكنت من تحقيق فوائض كبيرة، وتبحث عن أبواب استثمارية جديدة، وإفريقيا تقدم نفسها الآن كخيار أكثر جاذبية، في وضع تعاني فيه الأسواق الاستثمارية التقليدية من مشكلات جسيمة، كما تواجه فيها الاستثمارات عقبات متصاعدة، وليس أدل على ذلك من تصاعد المخاوف الغربية مما يسمى بالصناديق السيادية وصفقة موانئ دبي... إلخ. ففي الولايات المتحدة يتم الآن إخضاع الموافقة على مثل هذه الاستثمارات إلى إجراءات مشددة ومراجعات استثنائية. كما أنه، وعلى صعيد أوروبا، تم وضع ضوابط، إن لم نقل وضع قيود، على حركة هذه الاستثمارات، هذا بالإضافة إلى تكليف صندوق النقد الدولي وضع قوانين تحكم عمل وتحرك هذه الاستثمارات. فالدول الغربية تسعى لاجتذاب أموالنا واستثماراتنا، ولكن دون أن تعطي لهذه الاستثمارات حتى الحق في أن يكون لها صوت مؤثر في إدارة الشركات.
ثالثاً: أن المملكة تمكنت خلال العقود الثلاثة الماضية من بناء قواعد تنموية وصناعية تؤهلها للانطلاق نحو الأسواق الخارجية، للاستفادة من الفرص المتاحة ومواجهة التحديات محلياً ودولياً. فشركة سابك على سبيل المثال باتت واحدة من أكبر عشر شركات صناعة البتروكيماويات عالمياً، وتستثمر في الكثير من دول العالم، ولكن إفريقيا تعد بالنسبة لها فرصة مثلى، خاصة أن أغلب الاستثمارات الخارجية العالمية تتوجه حالية نحو قطاع الموارد الطبيعية، وتحديداً النفط وصناعة البتروكيماويات، وهو القطاع الذي نجحت الكثير من الشركات السعودية والخليجية في بناء ميزة تنافسية ونسبية. لقد تمكنت المملكة - كأكبر اقتصاد عربي، وأكبر مستثمر عربي في الخارج - وعلى مدى العقود القليلة الماضية، من بناء قاعدة صناعية تؤهلها للتوسع خارجياً، وأصبح بإمكانها التحول بقوة من الاستثمار الخارجي غير المباشر إلى الاستثمار المباشر، لتدشن لمرحلة جديدة من الانطلاق الاقتصادي.
رابعاً: إن إفريقيا تعتبر الامتداد الإقليمي والجغرافي والاستراتيجي للمملكة، حيث تقابل حدودها الغربية خمس دول إفريقية، ولهذا فإن وضع استراتيجية سعودية طموحة لتعزيز الشراكة مع إفريقيا لم تعد مجرد خيار، في ظل التدافع العالمي والخطط التي تُعد للسيطرة على ذلك السوق الخصب. فسيطرت كيانات شرقية أو غربية على الأسواق الإفريقية مرة أخرى - شأن عقود الاستعمار - يمكن أن تخلق تهديداً استراتيجياً للدول العربية وفي مقدمتها المملكة.
وبحسب إحصاءات المنتدى السعودي الأمريكي، استثمرت المملكة، حتى مطلع الألفية الجديدة، نحو 60 في المائة من جملة استثماراتها الخارجية (عامة وخاصة) بالولايات المتحدة سواء في شكل استثمار مباشر أو غير مباشر، في حين حصلت دول أوروبا على نسبة 30 في المائة من تلك الاستثمارات السعودية، أما باقي دول العالم فلم تحصل إلا على نسبة 10 في المائة فقط، من بينها 16 مليار دولار في مدينة دبي. إذاً، إفريقيا شبه غائبة عن خريطة الاستثمارات السعودية في الخارج، إلا أنها توفر في الوقت الراهن سوقاً خصباً ورحباً ومتنوعاً لاستثمار الأصول والفوائض الوطنية، الباحثة عن أسواق جديدة. فالأصول الإفريقية، وعلى أثر الأوضاع التنموية البالية على مدى العقود الماضية، مقومة حالياً بأدنى من قيمتها الحقيقية، ولهذا لا نعجب أن نرى تهافت وتدافع الدول والشركات، وخاصة الآسيوية على السوق الإفريقي.
إن توجه المستثمر السعودي (العام والخاص) نحو السوق الإفريقي لا بد أن تسبقه استراتيجية واضحة ومنظومة مؤسسية قوية وهادفة، بحيث تكون الصورة واضحة تماماً أمامه، وهذا هو ما فعلته مختلف القوى النشطة في السوق الإفريقي. وعليه، يقترح اتخاذ الخطوات التالية:
* أسوة بالتحركات والخطوات التي اتخذتها مختلف الدول والمناطق وخاصة دول آسيا الصناعية (اليابان) وحديثة التصنيع (سنغافورة، ماليزيا والصين وتايوان)، فإن على المملكة الدخول في اتفاقات شراكة عربية إفريقية طويلة الأجل، لتشجيع المبادلات التجارية، وتسهيل وتوحيد أنظمة التجارة والاستثمار، بما ييسر تدفق الاستثمارات الوطنية لإفريقيا.
* أكد تقرير الاستثمار العالمي على أن ماليزيا هي أكثر دول آسيا تنوعاً بالنظر إلى استثماراتها في إفريقيا، سواء بالنظر إلى الدول أو القطاعات التي تستثمر فيها، وعليه يوصى ببذل الجهود لإحداث تزاوج بين رأس المال الوطني - الذي يبحث عن فرص استثمارية - وبين والتقنيات والخبرات والمهارات الماليزية، لاقتناص الفرص الاستثمارية الواعدة التي توفرها دول إفريقيا.
* أكد تقرير مهم صادر عن اليونيدو (2007م) على الدور الحاسم لمؤسسات ترويج وضمان الاستثمار، في توجيه الاهتمام نحو إفريقيا. وعليه، ينبغي دعم قيام تعاون فعال بين الهيئة العامة للاستثمار ومؤسسات عربية، كالمؤسسة العربية لضمان الاستثمار والمصرف العربي للتنمية في إفريقيا، لتقديم حزمة متكاملة من الخدمات للاستثمارات الوطنية في إفريقيا.
* دعوة وتشجيع متخذي القرار والمعنيين بشؤون الاستثمار، من الدول الإفريقية النشطة في مجال جذب الاستثمار، على القدوم للمملكة، لعرض الفرص الاستثمارية وترويجها من خلال المعارض المختلفة، وتقديم مختلف سبل الدعم لهم من قبل هيئة الاستثمار وغيرها، بما يُمَكن في النهاية من عقد الصفقات في مختلف القطاعات الاستثمارية في إفريقيا.
* ينبغي تشجيع الجامعات والمراكز البحثية الوطنية على إعطاء المزيد من الاهتمام بالدراسات التحليلية لقارة إفريقيا (مثل إنشاء تخصص علمي متفرد لدراسات الاقتصاد الإفريقي والعلاقات التجارية السعودية الإفريقية)، وفرص الاستثمار في مختلف القطاعات الإنتاجية، بما يوفر قاعدة بيانات ثرية، وأرضية خصبة يمكن للمستثمر الوطني الاعتماد عليها عند اتخاذه القرار الاستثماري أو عند دراسته لجدوى الاستثمار في مشروع معين في إفريقيا.
* يلزم تنشيط وتطوير التجارة فيما بين المملكة ودول القارة السمراء، خاصة الدول غير العربية، لخدمة أنشطة الاستثمار المتبادل، حتى يتم دحض ما يشاع بأن الدول العربية (النفطية) تؤثر الدول العربية الإفريقية على الدول الإفريقية غير العربية. فمن الواضح أن هناك جهودا عالمية حثيثة لخلق حالة من القطيعة بين العرب وإفريقيا، من خلال إشعال نيران الفتنة بين العرب وإخوانهم الأفارقة في العديد من الدول العربية والإفريقية (السودان، تشاد، كينيا، نيجيريا والصومال... إلخ)، بهدف تغذية شعور إفريقي عدائي لكل ما هو عربي. لذا، علينا التحرك الجدي لدحض هذه المخططات، التي تستهدف حرمان بلداننا من فرص التجارة والاستثمار مع دول تشكل امتداداً استراتيجياً لنا "دول إفريقيا". تحياتي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي