رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بريطانيا رهينة أزمتين

"لا يمكنني إتمام المهمة التي انتخبني حزب المحافظين للقيام بها"
ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا المستقيلة
يمكن وصف المشهد الحالي في بريطانيا بـ"اللامعقول". أغلبية الأحداث التي تتوالى غير مسبوقة، وسط اضطراب سياسي غير مسبوق بالطبع أيضا، وفي ظل أزمة اقتصادية متفاقمة، بعضها توالد من سياسات حكومية أقل ما يمكن نعتها بالغريبة، وبعضها الآخر ناتج عن الأزمة الاقتصادية العالمية التي يتصدر التضخم المتوحش عناوينها، وسيبقى في الصدارة إلى أجل لن يكون قصيرا. فضلا عن المشكلات المتعاظمة في ميدان الطاقة، الذي بات يمثل المحور الأهم لهموم كل الحكومات في العالم الغربي تقريبا. في الأسابيع القليلة الماضية اتسمت المملكة المتحدة بعدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى إطلاق التمنيات بأن يعود الاستقرار إلى جارته. حتى الرئيس الأمريكي جو بايدن، تدخل في أمر لا يعني الرؤساء الأمريكيين عادة، وهو ميزانية بريطانيا الجديدة، التي وصفها بالخطأ.
المشكلة الكبرى التي تواجه بريطانيا حاليا، هي أنها تعيش أزمتين كبيرتين إلى جانب الأزمات الجانبية الأخرى. الأولى، تتعلق بالطبع باضطرابات اقتصادية ومعيشية متفاقمة إلى أبعد الحدود، على رأسها التضخم الذي فشلت الحكومة في السيطرة عليه، على الرغم من كل محاولاتها المختلفة. وهذا ليس غريبا، فالفشل في مواجهة ارتفاع تكاليف العيش في الدول الغربية عموما يشمل الجميع، بصرف النظر عن برامج الإنقاذ "الدعم" التي تطرحها هذه الحكومات بين الحين والآخر. لكن الجانب المتعلق بهذا الشأن في المملكة المتحدة مختلف بعض الشيء، لأن جزءا من استفحال مشكلة التضخم، كانت سياسات حكومة لم تستمر في الحكم سوى 44 يوما، بقيادة ليز تراس، التي اضطرت إلى الاستقالة بعد تهديدات علنية من قبل حزبها بعزلها. هذه الأخيرة قدمت ميزانية صادمة حتى لأولئك الذين أسهموا في وصولها إلى الحكم.
الصدمة باختصار تكمن في أنها قررت خفض الضرائب بمستويات كبيرة، دون أن توضح كيفية تمويل هذا الخفض. بالطبع لم يبق أمامها سوى الاقتراض، الأمر الذي أربك السوق. لماذا؟ لأن الديون الحكومية في بريطانيا فاقمت ناتجها المحلي الإجمالي. انخفض الجنيه وارتفعت الفائدة على القروض السكنية، ما هدد عشرات الآلاف من البريطانيين لخسارة منازلهم المرهونة للمصارف. كانت تراس تدعي أنها تخفض الضرائب من أجل ضمان النمو. لكن المسألة لا تتم هكذا، لأن الضرائب المنخفضة تعزز النمو إذا كان الوضع الاقتصادي مستقرا، وإذا كانت الحكومة ليست تحت ضغوط ديون هائلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد. كل ما أرادته رئيسة الوزراء التي دخلت التاريخ لأقل رئيسة زمنا في الحكم، أن تدعم طبقة الأثرياء في وقت غير ملائم لذلك.
كان لا بد لرئيسة الوزراء أن "تضحي" بوزير ماليتها لإنقاذ نفسها، لكن الأمواج ضدها كانت عاتية. كان لا بد أن تغادر، وقبل أيام من مغادرتها عينت جيرمي هانت وزيرا للمالية. ماذا فعل؟ مزق ميزانية تراس على الفور، لاستعادة الثقة ليس بالحكومة فحسب، بل بحزب المحافظين الحاكم الذي يعاني انقسامات كبيرة منذ 2016 حين تم التصويت لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. هذا الحزب الذي حكم منذ 12 عاما، صار مسرحا للتجاذبات بل الاتهامات بين أركانه، بحيث وصلت شعبيته إلى أدنى مستوى لها في التاريخ، في حين بلغت شعبية حزب العمال المعارض الرئيس إلى أعلى مستوى لها في التاريخ أيضا. كان طبيعيا أن تسجل شعبية ليز تراس مستويات متدنية لم يصل إليها أي رئيس وزراء في السابق.
هنا تبرز الأزمة الثانية، التي تتعلق بحزب المحافظين. في الأشهر الماضية كان الحديث عن أزمة هذا الحزب أكثر من الحديث عن أزمة البلاد كلها، وهذا ما يبرر ارتفاع شعبية أحزاب المعارضة جميعها التي تدعو إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة لحسم الفوضى السياسية التي تعج بها البلاد. لكن الأمر ليس سهلا. فلكي تكون هناك انتخابات مبكرة، يجب أن يوافق مجلس العموم عليها، والأغلبية في هذا المجلس هي للمحافظين حاليا الذين لا يمكن أن يصوتوا لانتخابات يعرفون سلفا أنهم سيخسرون فيها نحو ثلث مقاعدهم في البرلمان على الأقل. ولذلك، صارت المملكة المتحدة رهينة أزمتين: اقتصادية، تتفاقم بصورة شبه يومية، إلى درجة أن خفضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، من توقعاتها للنظرة المستقبلية لتصنيف بريطانيا إلى "سلبية"! نعم، تصنيف غريب لكنه حقيقي، مع دخول الفوضى السياسية عمقا جديدا، ومع بلوغ التضخم الخانة العشرية، ومع ارتفاع تكاليف خدمة الدين، ومع عدم يقين السوق، وغير ذلك من الأسباب.
الأزمة الثانية سياسية، ليست نتيجة صراع الأحزاب، بل بسبب ما يمكن وصفه بـ"الحرب الأهلية" ضمن حزب المحافظين الحاكم. وهذه النقطة خصوصا، تكرس يوما بعد يوم، استحالة فوز هذا الحزب في أي انتخابات عامة ستجري مبكرا، أو حتى في موعدها الحتمي بعد أقل من عامين. لكن الأهم من فوز الحزب أو خسارته، تبقى الأضرار تتسع على الجانب المحلي، في وقت يتطلب فيه الأمر وجود حكومة وحدة وطنية لمواجهة أزمات متفاقمة بلا نهاية قريبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي