الاتحاد الأوروبي وأزمة الطاقة .. التكاتف أو الضياع

الاتحاد الأوروبي وأزمة الطاقة .. التكاتف أو الضياع

التحديات الاقتصادية التي تواجهها منطقة اليورو تختلف عن تلك التي تواجهها الولايات المتحدة، لكن أخذ كل شيء في الحسبان هو أكثر صعوبة.
لا يعاني اقتصاد منطقة اليورو نشاطا مفرطا في الطلب المحلي بالقدر نفسه الذي تعانيه الولايات المتحدة. هذا من شأنه أن يسهل على البنك المركزي الأوروبي مهمة السياسة النقدية أكثر من الاحتياطي الفيدرالي. لكن صدمة الإمدادات التي تعصف بمنطقة اليورو أصبحت أكبر كثيرا، مع ارتفاع هائل في أسعار الطاقة، خاصة الغاز، بعد الحرب الروسية - الأوكرانية. هذه الصدمة تضخمية وانكماشية في آن واحد، تضخمية من جهة أنها رفعت مستوى الأسعار بحدة، وانكماشية من جهة أنها خفضت الدخل الحقيقي للأسر ومعدلات التبادل التجاري للدول.
الأمر الحاسم أن منطقة اليورو أكثر هشاشة من الولايات المتحدة. اقتصاداتها الوطنية متنوعة وآلياتها للتأمين عبر الحدود غير متطورة نسبيا. وقبل كل شيء، تظل السياسة وطنية. نتيجة لذلك، التجزئة تشكل دائما خطرا. مع ذلك، تتمتع منطقة اليورو بمزايا في التعامل مع جائحة كورونا وصدمات الطاقة مقارنة بتعاملها مع الأزمات المالية التي حدثت قبل عقد. أثرت الصدمات الأخيرة في أعضاء الاتحاد الأوروبي بطرائق متشابهة إلى حد كبير، في حين قسمت الأزمة المالية العالمية منطقة اليورو بين دائنين متسلطين ومدينين مهانين. هذه المرة مختلفة فعلا.
إذن، ما الذي قد يحمله المستقبل؟ وفي المقام الأول، ما الذي يلزم فعله؟
لنبدأ بالسياسة النقدية. في الفترة حتى آب (أغسطس) من 2022، بلغ التضخم الرئيس لأسعار المستهلك 9.1 في المائة في منطقة اليورو و8.3 في المائة في الولايات المتحدة. لكن التضخم الأساسي "دون حساب أسعار الطاقة والغذاء" لم يتجاوز 4.3 في المائة في منطقة اليورو مقابل 6.3 في المائة في الولايات المتحدة. وبهذا فإن 4.8 نقطة مئوية من التضخم في منطقة اليورو كانت راجعة إلى الزيادات في أسعار الطاقة والغذاء، مقابل نقطتين مئويتين في الولايات المتحدة. بالمثل تشير بيانات سوق العمل إلى نشاط أقل كثيرا من الولايات المتحدة.
هذا يفسر سبب تشديد البنك المركزي الأوروبي بعد الاحتياطي الفيدرالي ورفعه معدلات الفائدة بنسب أقل منه: ارتفاع بواقع 1.25 نقطة مئوية في معدل التدخل، من سالب 0.5 في المائة في البنك المركزي الأوروبي، مقابل ارتفاع بواقع 3 نقاط مئوية، من 0.25 في المائة في الاحتياطي الفيدرالي. مع ذلك، قرار المركزي الأوروبي البدء في تطبيع السياسة النقدية كان صائبا أيضا. يرجع ذلك، جزئيا، إلى أن السياسة كانت عدائية للغاية، وجزئيا لأنه كان بحاجة إلى الحد من أن تصبح آثار الأسعار الناجمة عن الصدمات جزءا لا يتجزأ من التوقعات. كما أن إجراءات البنك المركزي الأوروبي لم تكن سابقة لأوانها، فقد كشف صندوق النقد الدولي أن توقعات التضخم لكثير من المشاركين في السوق قد ارتفعت بالفعل إلى نحو 4 في المائة.
مع ذلك، على البنك المركزي الأوروبي أن يتوخى الحذر بشأن مدى سرعته في اتخاذ القرارات وإلى أي مستوى يصل. أحد أسباب ذلك هو أن صدمة الطاقة ستضفي دفعة ركود قوية على الاقتصاد. والواقع أن حالات الركود محتملة إلى حد كبير في منطقة اليورو. إن تعقيد آليات انتقال آثار السياسة النقدية، كما هو موضح في خطاب ألقاه أخيرا فيليب لين، كبير الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي، يعد سببا آخر لتوخي لحذر. يشكل الشك في حدوث حالات تأخير مصدر قلق خاص. من المحتمل جدا أن ينخفض التضخم الرئيس بسرعة في وقت قريب جدا، لأن أسعار الغاز تنخفض. إذا انخفض التضخم فربما يحدث التأثير الرئيس للتشديد النقدي الحالي بعد فترة طويلة من تعديل توقعات التضخم بالانخفاض فعليا. الواقع أنه من الممكن أن تظل السياسة النقدية "الطبيعية" لمنطقة اليورو متساهلة للغاية، مثلما كانت قبل جائحة كورونا.
ما يثير القلق بوجه خاص ارتفاع فروق الأسعار على السندات الحكومية، التي ستنتقل بعد ذلك إلى المقترضين في الاقتصادات الأكثر ضعفا. حتى الآن، فروق الأسعار هذه أقل كثيرا مما كانت عليه أثناء أزمة منطقة اليورو. علاوة على ذلك، لدى البنك المركزي الأوروبي أدوات عديدة - بمفرده أو بالتعاون مع مؤسسات أخرى، خاصة آلية الاستقرار الأوروبية - للتصدي للتجزئة. تشمل هذه الأدوات إعادة استثمار الأصول و"أداة لحماية انتقال السياسة النقدية"، وهي أداة جديدة. وإذا فشلت أي أداة فهناك "المعاملات النقدية المباشرة" التي وضعت2012، بعد خطاب ماريو دراجي الذي تعهد فيه بعمل "كل ما يتطلبه الأمر" لإنقاذ اليورو. بيد أن تنفيذ هذه البرامج سيولد صعوبات مفاهيمية وعملية وسياسية، ولا سيما فيما يتعلق بالتمييز بين ضعف السيولة والإعسار. لكن في نهاية المطاف، الأمر بسيط، على منطقة اليورو خلال هذه الأزمات أن تعامل جميع أعضائها كما لو كانوا في الحالة نفسها إلى حد كبير رغم أنهم ليسوا كذلك.
هل سيجدي هذا؟ أفضل إجابة هي أنه يجب أن ينجح. نجاة الاتحاد الأوروبي، وبالتالي منطقة اليورو، قلبه الاقتصادي، تصب في المصلحة الوطنية والجماعية الرئيسة لأعضائه. إنهم يواجهون عدوا لمبادئهم الأساسية شرقا، والولايات المتحدة التي لا يمكن التنبؤ بها غربا. ليس على الاتحاد الأوروبي أن ينجو فحسب، بل يزدهر، إذا كانت أوروبا نفسها ستزدهر. لقد تبين مرارا وتكرارا منذ أن ضربت جائحة كورونا، أن الدول الأعضاء تعي ذلك، خاصة الأهم منها. مهما كانت هياكل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو متداعية وناقصة، على الأعضاء أن يحافظوا على تكاتف الجميع في السراء والضراء. الوضع الآن يتطلب ذلك.
هذا يعني أكثر بكثير من مجرد ضمان أن النظام النقدي يعمل لمصلحة الجميع. كما يعني تشكيل سياسة مشتركة للطاقة، ولا سيما سياسة تسرع التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، ما يساعد الدول الأعضاء على حماية مواطنيها من أسوأ ما في صدمة الطاقة، والاتفاق على سياسة مشتركة تجاه روسيا بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي، وتشكيل سياسة تجارية واقتصادية تدير العلاقات مع الصين، وحتى السعي إلى علاقات أكثر استقرارا مع المملكة المتحدة.
التنازلات اللازمة لمعالجة صدمة الطاقة والحرب الروسية الأوكرانية ستكون مؤلمة، لكن يجب أن تحدث. بدون الاتحاد الأوروبي، ستضيع الدول الأعضاء. إنهم يعرفون ذلك وأثق أنهم سيتصرفون بناء على تلك المعرفة. من بين هذه الأزمات لا بد أن يخرج اتحاد أوروبي أقوى، لأنه ليس هناك بديل له.

الأكثر قراءة