السبيل إلى الهيمنة التكنولوجية .. كسب حرب الرقائق

السبيل إلى الهيمنة التكنولوجية .. كسب حرب الرقائق

في 17 كانون الثاني (يناير) 1991، طارت قاذفات القنابل الشبح الأمريكية إلى العراق ودمرت مبنى مقسم الهاتف في بغداد بقنابل موجهة بالليزر. بعدها بلحظات، أطلقت سفن البحرية الأمريكية 116 صاروخا من طراز توماهوك جوالا على أهداف حول العاصمة العراقية، لتبدأ بذلك حرب الخليج الأولى.
كان للقوة النارية الرهيبة التي أطلقت خلال عملية عاصفة الصحراء دور فعال في طرد جيش صدام حسين من الكويت. لكنها أرسلت أيضا إشارة قوية إلى الاتحاد السوفياتي عن القوة العسكرية الأمريكية والأهمية المتزايدة لأشباه الموصلات.
في واحدة من بين مجموعة من الحقائق المدهشة في كتاب "حرب الرقائق"، نجد تاريخا مشوقا لأشباه الموصلات كتبه كريس ميلر، وهو مؤرخ في جامعة تافتس، يصف كيف كانت صناعة الرقائق السوفياتية، والروسية فيما بعد، متخلفة جدا عن الولايات المتحدة رغم الجهود الجبارة التي بذلتها الاستخبارات السوفياتية لدرجة أن أحد مصانع الإنتاج كان "ينتج رقائق صغيرة لألعاب وجبة الأطفال ’هابي ميل‘ من ماكدونالدز". أشاد القادة العسكريون السوفيات ببراعة أمريكا في الحوسبة بأنها عامل حاسم في انتصارها في الحرب الباردة.
في كتاب مقنع يتناول صناعة معقدة للغاية بطريقة سهلة الفهم، يشرح ميلر بالتفصيل تقلبات قطاع الرقائق في كل من الولايات المتحدة والدول الآسيوية التي تهيمن على أجزاء كثيرة من سلسلة التوريد لتكنولوجيا ضرورية أكثر من النفط. لا يوجد وقت أنسب لنشر كتابه من الآن، لكونه يأتي بعد أشهر فقط من إقرار الكونجرس تشريعا لتقديم 52 مليار دولار لدعم الإنتاج المحلي لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
تلعب الرقائق دورا في المخاوف الأمريكية من زيادة الضعف الأمني. تعد الرقائق ضرورية للمنتجات، بدءا من الهواتف والثلاجات إلى الطائرات المقاتلة، وأثار التهديد الصيني المتصاعد لتايوان، التي تعد الآن موطنا لأكبر شركة تصنيع رقائق في العالم، إضافة إلى هشاشة في سلاسل التوريد كشفتها جائحة كورونا، تساؤلات عن أمن إمداداتها.
يضيف ميلر في كتابه روايات قوية عن العلماء الذين اخترعوا أشباه الموصلات. من بينهم روبرت نويس الذي شارك في تأسيس "إنتل" عام 1968 إلى جانب جوردون مور، المهندس الذي أصبح اسمه مرتبطا إلى الأبد بالرقائق عندما توقع أن تتضاعف قوتها كل عامين، مبدأ يعرف باسم "قانون مور". من الشخصيات المميزة الأخرى جاك "السيد سبود" سيمبلوت، مزارع من ولاية أيداهو كان مسؤولا ذات مرة عن توريد نصف البطاطس المقلية التي تباع في ماكدونالدز قبل أن ينتهي به الأمر إلى إنقاذ "ميكرون"، وهي شركة تصنيع الرقائق.
أحد أكثر الأشخاص نفوذا في الكتاب هو موريس تشانج، الذي فر من الصين قبل أن يتولى الشيوعيون السلطة وانتهى به المطاف في الولايات المتحدة حيث درس في هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وستانفورد. أمضى تشانج أعواما في شركة تكساس إنسترومنتس لتصنيع الرقائق قبل مغادرتها حين لم يتم تعيينه في منصب الرئيس التنفيذي. في واحد من أهم التطورات في تاريخ أشباه الموصلات، عينته حكومة تايوان لتأسيس صناعة رقائق متطورة. أنشأ تشانج شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة "تي إس إم سي"، التي تصنع رقائق من تصميم عملائها، بدلا من إنتاجها رقائق من تصميمها. تنتج الشركة الآن 92 في المائة من أشباه الموصلات الأكثر تطورا في العالم.
يروي ميلر ظهور الصناعة في أواخر الخمسينيات عندما بنى العلماء والشركات رقائق - تعرف باسم الدوائر المتكاملة - وذلك بنحت الترانزستورات المجهرية إلى قطع من السيليكون. صدمة "سبوتنيك" عام 1957، التي حدثت عندما أطلق الاتحاد السوفياتي قمرا صناعيا إلى الفضاء، ولدت المشترين. اشترت وكالة ناسا رقائق لبرنامجها "أبولو" في حين أرادت القوات الجوية جهاز كمبيوتر جديدا لصاروخ "مينتمان 2". بمرور الوقت، كما يقول ميلر، تفوق طلب القطاع الخاص على المشترين العسكريين مع ظهور أجهزة الكمبيوتر التجارية.
يؤرخ كتاب "حرب الرقائق" تحولا آخر حدث في الستينيات، عندما بدأت الشركات الأمريكية في نقل بعض عمليات الإنتاج إلى هونج كونج وتايوان وسنغافورة فيما يمثل بداية إضعاف الصناعة المحلية الأمريكية. في الثمانينيات، وجدت الشركات الأمريكية نفسها تحت حصار من المنافسين اليابانيين، ما أدى إلى تسريع نقل عملياتها إلى تايوان وكوريا الجنوبية من أجل خفض التكاليف، ونتج عن ذلك طلب الشركات الأمريكية الكبرى، مثل "إنتل"، المساعدة من الحكومة. لكن مع دخول التسعينيات انقلبت الأمور. لم تنفجر الفقاعة الاقتصادية في اليابان فحسب، كما يكتب ميلر، بل فوتت الشركات اليابانية الفرصة وقت ظهور الأجهزة المحمولة الشخصية التي كانت تحرك الطلب القوي على رقائق "إنتل".
في أحد الأمثلة العديدة على التقلبات المثيرة في الصناعة سريعة التطور، يصف ميلر كيف استثمرت "إنتل" في تطوير تكنولوجيا الطباعة الحجرية بأشعة فوق البنفسجية عالية الطاقة تجعل إنتاج الرقائق الأكثر تطورا ممكنا، لكنها "فرطت" في ريادتها بتفويتها تحولات في بنية الرقائق اللازمة للذكاء الاصطناعي، وواجهت مشكلات في الإنتاج، وكافحت لمواكبة قانون مور.
قرب نهاية المجلد المؤلف من 410 صفحات، يوضح ميلر الجهود التي بذلتها الصين لتطوير صناعة الرقائق، وكيف أعاقتها الجهود الأمريكية. بدأت إدارة ترمب في بذل جهود لإبطاء الصناعة في الصين، وتحذو إدارة بايدن حذوها.
في النهاية، يخلص ميلر إلى أن المخاطر كبيرة للغاية. "حسمت الحرب العالمية الثانية بالفولاذ والألمنيوم، تلاها بعد وقت قصير الحرب الباردة التي حددت بالأسلحة الذرية"، كما يكتب ميلر. "التنافس بين الولايات المتحدة والصين قد تحسمه قوة الحوسبة".

الأكثر قراءة