بريطانيا .. اضطراب السوق مجرد البداية
لقد مر وقت طويل جدا منذ أن شهدنا أحد اقتصادات مجموعة السبع يمر بما مرت به المملكة المتحدة في الأيام الستة الماضية – تحركات مشوشة في أسواق العملة والسندات لديها، وفقدان الثقة بصانعي السياسات، وتدخل مباشر من جانب البنك المركزي في سوق السندات الحكومية، وضغوط من أجل رفع سعر الفائدة بشكل طارئ، وتحذير من صندوق النقد الدولي.
إذا سمح لهذا الاضطراب بالاستمرار، فإن الآثار الاقتصادية والمالية السلبية على المملكة المتحدة، التي هي آثار مثيرة للقلق بالفعل، تكون قد بدأت للتو.
ما حفز قدوم هذه الفترة المصيرية في تاريخ الاقتصاد البريطاني هو طرح حزمة سياسات مفرطة في طموحها تهدف إلى توليد النمو الاقتصادي وخفض التضخم. الإصلاحات الهيكلية الساعية إلى تعزيز النمو الاقتصادي واستقرار أسعار الطاقة، وهما خطوتان موضع ترحيب، ترافقت مع تخفيض ضريبي كبير، مقلق، وارتدادي نسبيا، وغير ممول.
ونظرا لمجيئها وسط توتر السوق العالمية، أطلقت هذه الإصلاحات العنان لارتفاعات قياسية في عوائد سندات الحكومة البريطانية المضمونة، كما أطلقت العنان لمستوى قياسي جديد في تراجع العملة، وتزايدا في مخاطر اختلال السوق والحوادث المالية. وعلى نحو غير مألوف، دفعت صندوق النقد الدولي إلى إصدار بيان أبدى فيه رفضه لها معتبرا إياها أكثر ملاءمة للدول النامية منها لدولة في مجموعة السبع.
تضمنت المحاولة الأولية لتهدئة الوضع تصريحات مطمئنة صدرت عن بنك إنجلترا ووزارة المالية. تركت هذه التصريحات بعض التأثير، لكن ليس بالقدر الذي يحد من تحرك العائدات إلى الأعلى، ما أدى في حالة سندات الـ30 عاما إلى تجاوز العائد 5 في المائة، وهو مستوى شوهد آخر مرة في 2002 وقبل ذلك في 1998. وقد انطوى تكثيف تحركات السوق الكبيرة والمفاجئة على خطر الفشل في تلبية طلبات الضمان، كما انطوى على مخاوف أخرى لدى الأطراف المقابلة من غير البنوك.
الاضطراب المضاعف لأسواق الدخل الثابت أجبر مزودي الرهن العقاري على سحب عروض منتجاتهم بسرعة مذهلة. شهد قلة من مشتري المنازل القادرين على تأمين قروض عقارية جديدة زيادة في مدفوعاتهم الشهرية. وفي الأثناء، قاوم بنك إنجلترا اتخاذ أي إجراءات طارئة، تاركا الأضواء مسلطة بقوة على وزارة المالية.
تغير موقف البنك المركزي مرة أخرى يوم الأربعاء مع تزايد الدلائل على وجود ضغوط في السوق. وبسبب عدم قدرته على الوقوف مكتوف اليدين، أعلن بنك إنجلترا تدخله بصورة مباشرة في السوق من خلال عمليات شراء "مؤقتة" للسندات الحكومية طويلة الأجل.
انس حقيقة أن هذا يتعارض صراحة مع نية البنك التي أعرب عنها في آب (أغسطس)، الخاصة ببيع الأوراق المالية (البرنامج الذي أصبح متأخرا الآن وبات يسمى التشديد الكمي) وزيادة أسعار الفائدة بقوة أكبر، التي أكد عليها كبير الاقتصاديين في البنك يوم الثلاثاء. وقد أدت المخاوف بشأن زيادة تضخيم عدم اتساق السياسات في المملكة المتحدة إلى إفساح المجال للأولوية المستعجلة، المتمثلة في استقرار الأسواق التي تعيش حالة من الاضطراب.
لم يكن من السهل إطلاقا على البنوك المركزية إنهاء فترة طويلة من سنوات أسعار الفائدة المكبوتة وعمليات ضخ السيولة الهائلة، وكذلك أوضاع السوق المعاكسة التي نجمت عن ذلك. الآن، هذا الانتقال الذي لا محالة أنه سيكون مضطربا، أصبح أكثر صعوبة وخطورة.
مع ذلك، يتضح أن ما على المحك هنا يتجاوز التشديد غير المنضبط للظروف المالية والمخاطر المتزايدة بشكل كبير من وقوع حوادث السوق. لقد تم إلحاق الضرر الحقيقي باقتصاد المملكة المتحدة. وكلما امتدت فترة السماح لذلك بالاستمرار، زاد الضرر الهيكلي الذي يلحق بقدرة الدولة على النمو بطريقة كبيرة ومستدامة وشاملة.
الأسر والشركات البريطانية التي بدأت تتعامل مع مخاوف كبيرة من التضخم والركود - أصبحت مرتفعة الآن - تواجه احتمالات ارتفاع تكاليف الاقتراض بشكل كبير وتضرر الثروة. والمحصلة الكلية لكل هذا هي ضربة أخرى من الركود التضخمي تتعارض مع الهدف الأساسي لسياسة الحكومة المتمثل في تعزيز النمو واحتواء أزمة تكلفة المعيشة.
لحسن الحظ، يوجد مخرج من هذا الوضع - لكن نافذة التنفيذ ليست كبيرة وقد أخذت تنغلق. ينطوي المخرج على تأجيل الحكومة للتخفيضات الضريبية المعلنة لفترة طويلة ـ إلى العام المقبل وما بعده، وأن يرفع بنك إنجلترا أسعار الفائدة قبل اجتماعه المقرر في الثالث من نوفمبر، وأن تقضي وزارة المالية مزيدا من الوقت في شرح كيف ستحفز إصلاحاتها الهيكلية النمو المستدام، وتقديم حماية مركزة أكثر للفئات الأكثر ضعفا من السكان، والإشراف الدقيق على الاختلالات في القطاع المالي غير المصرفي.
الأسس المتزايدة لمقارنة الوضع الاقتصادي في المملكة المتحدة بالبلدان النامية المتعثرة تعد أمرا مقلقا على الصعيدين المحلي والدولي. إذا تركت تستمر، ستلحق مزيدا من الضرر بمصداقية صنع السياسات، ما يزيد من صعوبة إعادة الاستقرار المالي في سياق اقتصاد متنامي.
ينبغي للحكومة وبنك إنجلترا التحرك فورا قبل أن يصبح الوضع أكثر إشكالية.
*رئيس كلية كوينز في كامبريدج ومستشار اقتصادي