رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


آثار صعود الدولار اقتصاديا

تهيمن تعاملات الدولار على أسواق العملات العالمية، وتؤثر تقلباته في الأوضاع الاقتصادية العالمية. وتظهر هيمنة الدولار بشكل جلي على التجارة العالمية، حيث يسعر معظمها بالدولار، ويأتي على رأس السلع العالمية النفط والغاز والمعادن والسلع الزراعية. وتتفاعل أسعار المواد الأولية مع تقلبات أسعار الدولار، كما تؤثر هي بدورها في طلبه. فعندما ترتفع أسعار صرفه مع العملات الرئيسة الأخرى ترفع أسعار المواد الأولية بالنسبة إلى معظم دول العالم ويتراجع الطلب عليها، أما تراجع الدولار، فيزيد الطلب على السلع والمواد الأولية. في المقابل، فإن ارتفاع أسعار المواد الأولية يرفع الطلب على الدولار لأن معظم تداولاتها بالدولار.
تقدر تعاملات الدولار اليومية بستة أو سبعة تريليونات دولار بدءا من تبادلات السلع والخدمات، والتدفقات الاستثمارية، وإنفاق السياح، وانتهاء بالتحويلات عبر الحدود. وصعدت أسعار الدولار أخيرا إلى أعلى مستوياتها ضد العملات الرئيسة الأخرى خلال عقدين، فهذا الين الياباني يهبط لأدنى مستوى منذ 24 عاما. كما وصل الدولار مقابل اليورو إلى مستويات لم يبلغها منذ 20 عاما، ويعاني الجنية الاسترليني تراجعا مشابها لليورو. لم يقتصر الأمر على ذلك، فقد انخفضت أسعار صرف العملات العالمية الأخرى، كاليوان الصيني والعملات الكورية والهندية والتايوانية. وتقدر نسبة تحسن أسعار الدولار في الوقت الحالي بنحو 15 في المائة مقارنة بمستوياتها قبل 15 شهرا. أما معدلات صرف عملات الدول النامية والصاعدة، فقد تراجع بعضها بشكل أكبر بكثير من هذه النسبة، حيث انخفضت الليرة التركية مثلا بما يزيد على النصف خلال الفترة ذاتها.
يعود صعود الدولار إلى زيادة الطلب عليه، وازداد الطلب على الدولار في الآونة الأخيرة لعدة عوامل، أبرزها رفع مجلس الاتحاد الفيدرالي معدلات الفائدة، الذي حسن العائد على السندات الأمريكية. ويعود كذلك إلى قوة ومتانة الاقتصاد الأمريكي وأدائه الجيد نسبيا مقارنة بالاقتصادات الرئيسة الأخرى، حيث ارتفع الناتج المحلي الأمريكي خلال العامين الماضيين بنسب تفوق كثيرا نسب نمو الاقتصادين الأوروبي والياباني. ويرتفع الطلب على الدولار أيضا وقت الأزمات، لأن كثيرين يعدونه ملاذا آمنا، مقارنة بأي عملة أخرى، خصوصا بعد الحرب الأوكرانية والمخاطر المحيطة بالاقتصادات الأوروبية والعالمية الأخرى. وتزيد الأزمات من التدفقات الرأسمالية إلى الولايات المتحدة، ما يدعم قوة الدولار. وهناك عامل مهم ـ لا يتطرق إليه معظم المختصين ـ وهو توافر مصادر طاقة كافية لدى الولايات المتحدة وتحولها إلى مصدر صاف للطاقة واستفادتها من زيادة أسعارها. وأثرت الحرب الأوكرانية في مكانة الاقتصادين الأوروبي والياباني، ورفعت المخاطر المحيطة بهذين الاقتصادين، وأظهرت ضعفهما النسبي في مواجهة شح الطاقة. أما الاقتصاد الصيني فقد تأثر سلبا بإغلاقات كورونا، كما ارتفعت مخاطر نشوب أزمة عقارية فيه.
يعاني عدد من الدول الصاعدة زيادة سعر الدولار الأمريكي، وارتفاع معدلات الفائدة. فقد اقترض كثير من هذه الدول بالدولار وأصدر سندات دولارية عندما كانت معدلات الفائدة منخفضة. ورفع صعود الدولار الأمريكي أمام عملات معظم الدول تكاليف خدمة السندات الدولارية التي أصدرتها، ورفع أكثر تكاليف الاستدانة الحالية والقادمة. وسيواجه عديد من الدول الصاعدة والنامية مصاعب في تأمين احتياجاتها المالية في الأسواق العالمية، وقد يتعثر بعضها في سداد التزاماتها الخارجية. أما الدول الأقل دخلا، فستعاني بدرجة أكبر، ولعل الحالة السريلانكية من أوضح الأمثلة على ذلك. من المتوقع أن يسهم تضخم سعر الدولار في خفض تكاليف السلع المستوردة إلى الولايات المتحدة والدول المثبتة أسعار عملاتها بالدولار ومن بينها المملكة. وهذا سيساعد على كبح الضغوط التضخمية لدى هذه الدول، لكنه في المقابل سيؤثر في النشاط الاقتصادي فيها لرفعه تكاليف صادراتها، وبالتالي تثبيطها. ونتيجة لذلك سيزيد صعود الدولار مخاطر الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة، ومخاطر تراجع النمو في الدول الأخرى المثبتة أسعار عملاتها مع الدولار الأمريكي.
يستفيد المستهلكون "والمستوردون" داخل الولايات المتحدة والدول المثبتة عملاتها معه من صعود الدولار من خلال خفض تكاليف الواردات، لكن المصدرين ستنخفض إيراداتهم، وسترى الشركات الأمريكية المنتشرة حول العالم تراجعا في إيراداتها، بينما ستعزز إيرادات الشركات المصدرة إلى الولايات المتحدة بسبب صعود الدولار. وستنخفض إيرادات شركات التقنية الأمريكية الكبرى الخارجية في الولايات المتحدة مثل "أبل" و"مايكروسوفت" بسبب صعود الدولار، ما سيؤثر في ربحية أسواق رأس المال الأمريكية.
سيواجه المستهلكون في الدول المتراجعة عملاتها زيادات أسعار، بينما سيواجه المستثمرون المقترضون بالدولار عند معدلات فائدة منخفضة سابقا في هذه الدول صعوبات في تسديد مستحقات القروض. ويتوقع تراجع تدفق الاستثمارات إلى الدول النامية والصاعدة، وفي المقابل زادت تدفقات الموارد إلى الأصول الدولارية. وتؤكد البيانات الرسمية ارتفاع مقتنيات الأجانب من السندات الأمريكية خلال العامين الماضيين.
تحاول البنوك المركزية حول العالم الحد من آثار صعود الدولار برفع معدلات الفائدة، وهذا ما أجبر البنكين الأوروبي والإنجليزي أخيرا على رفع معدلات الفائدة. كما ستجبر بنوك الدول الأخرى والنامية على رفع معدلات الفائدة الأساسية، ما سيبطئ معدلات النمو الاقتصادي العالمي. لقد أثير في الأعوام الأخيرة كثير من التساؤلات والشكوك حول استمرارية هيمنة الدولار العالمية، نظرا إلى تضخم الديون والعجز المالي العام الأمريكي، وبروز قوى اقتصادية جديدة في مقدمتها الصين. لكن التطورات الأخيرة في أسواق العملات ما زالت تؤكد استمرار هيمنة العملة الأمريكية العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي