التنبؤات.. بين نظام الاقتصاد وعشوائيته
التوصل إلى توقعات للاقتصاد الكلي ومراهنة أموال العملاء عليها يعدان من الممارسات المعتادة في مجال إدارة الاستثمار. يبدو في هذه الأيام كما لو أن المستثمرين يعتمدون على كل كلمة تصدر من المتنبئين. رغم تجاهلي منذ فترة طويلة هذا الأمر، فإني أعتقد أنه مهم الآن النظر في سبب صعوبة إعداد توقعات مفيدة للاقتصاد الكلي.
ليس أمام المتنبئين خيار سوى بناء أحكامهم على النماذج، سواء كانت معقدة أو غير رسمية، حسابية أو بديهية. تتكون النماذج، بحكم تعريفها، من افتراضات، "إذا حدث أ، فسيحدث ب". بعبارة أخرى، العلاقات والاستجابات. عندما أفكر في نمذجة اقتصاد، فإن رد فعلي الأول هو التفكير في مدى تعقيد هذه المهمة بشكل لا يصدق.
للتنبؤ بمسار الاقتصاد الأمريكي، عليك توقع سلوك مئات الملايين من المستهلكين، إضافة إلى ملايين العمال والمنتجين والوسطاء. بناء على ذلك، على المحاكاة الحقيقية أن تتعامل مع مليارات التفاعلات، بما فيها التفاعلات مع الموردين والعملاء وغيرهم من المشاركين في السوق في جميع أنحاء العالم.
من الجلي أن هذا المستوى من التعقيد يستلزم استخدام افتراضات مبسطة. مثلا، افتراض أن المستهلكين لن يشتروا "ب" بدلا من "أ" إذا لم يكن "ب" أفضل أو أرخص "أو كليهما" كفيل بأن يسهل النمذجة. لكن ماذا لو انجذب المستهلكون إلى سمعة "ب" بغض النظر عن "أو حتى بسبب" سعره الأعلى؟
كما سيتعين على النموذج توقع كيف ستتصرف كل مجموعة من المشاركين في الاقتصاد في بيئات متنوعة. لكن ربما يتصرف المستهلكون بطريقة معينة في إحدى اللحظات وبطريقة مختلفة في لحظة أخرى مماثلة. يرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن سلوك المشاركين يتأثر بنفسياتهم، التي يمكن أن تتأثر بالتطورات النوعية وغير الاقتصادية. فكيف يمكن نمذجة ذلك؟
علاوة على ذلك، كيف يمكن لنموذج أن يكون شاملا بما يكفي للتعامل مع الأمور التي لم تر مسبقا أو في العصر الحديث؟ لننظر إلى جائحة كوفيد - 19. أي جانب من نموذج موجود مسبقا كان سيمكن توقع تأثير الجائحة؟
ثم فكر في القيود الملازمة لأي محاولة تنبؤ بأمر لا يمكن توقع بقائه ثابتا. "الثباتية" - الاعتقاد بأن الماضي هو دليل إحصائي للمستقبل - يمكن افتراضها إلى حد ما في مجال العلوم الفيزيائية. لكن عمليات قليلة يمكن الاعتماد عليها لتكون ثابتة في عالم الاقتصاد والاستثمار.
حتى لو حصل المستثمرون بطريقة ما على توقعات اقتصادية صحيحة، فهذا نصف الطريق فقط. لا يزالون بحاجة إلى توقع الكيفية التي سيترجم بها هذا النشاط الاقتصادي إلى نتيجة في السوق. هذا يتطلب تنبؤا مختلفا تماما، يتضمن أيضا متغيرات لا حصر لها، يتعلق كثير منها بعلم النفس وبالتالي لا يمكن معرفتها عمليا.
هل من الممكن إعداد توقعات قيمة للاقتصاد الكلي؟ لا يمكننا الإجابة عن هذا دون أن نقرر بداية ما إذا كنا نعتقد أن العالم الاقتصادي هو عالم منظم أو عشوائي. ببساطة، هل يمكن التنبؤ به كليا، أم لا يمكن التنبؤ به أبدا أم شيء ما بينهما؟ أرى أنه شيء ما بينهما.
لذلك، أعتقد أن الناتج عن نموذج اقتصادي ربما يشير إلى الاتجاه الصحيح في معظم الأوقات. لكن لا يمكن أن يكون دقيقا دائما، تحديدا في اللحظات الحرجة مثل نقاط الانعطاف، وهذا عندما تكون التنبؤات الدقيقة أكثر قيمة.
لطالما قلت إن لدينا نوعين من التوقعات، توقعات الاستقراء، ومعظمها صحيحة لكنها غير مربحة - إذ تنعكس الاستقراءات بالفعل في أسعار السوق - وتوقعات الانحراف، التي يحتمل أن تكون مربحة جدا لكن تندر صحتها وبالتالي غير مربحة عموما. تتمثل الخلاصة بالنسبة لي في أن التوقعات لا يمكن أن تكون صحيحة في الأغلب بما يكفي لتصبح جديرة بالاهتمام.
لكن التنبؤ بالاقتصاد الكلي مستمر. لا أرى المتنبئين محتالين أو دجالين. معظمهم من الأذكياء والمتعلمين الذين يظنون أنهم يعملون عملا مفيدا. لكن تدفعهم المصلحة الشخصية إلى التصرف بطريقة معينة، والتبرير الذاتي يمكنهم من التمسك بها في وجه أدلة تفيد عكس ذلك. سيلوم كثيرون التوقعات غير الناجحة على أنها أعمتهم بسبب الأحداث العشوائية أو الأحداث الخارجية. لكن هذه هي النقطة، لماذا نعد التوقعات إذا كانت ببساطة غير دقيقة؟
في النهاية، لا يمكننا معرفة المستقبل، لذا فإن الهدف الصحيح للمستثمر هو تقديم أفضل أداء ممكن في غياب تلك المعرفة. مفاد ذلك يعني التركيز على المجالات التي يمكن للفرد أن يكتسب فيها ميزة معرفية محتملة - مثل الشركات والصناعات والأوراق المالية - وإدراك الفرق بين التنبؤ بأين نذهب ومعرفة أين نحن.
مؤسس مشارك ورئيس مشارك لشركة أوكتري كابيتال مانجمينت ومؤلف كتاب "إتقان دورة السوق"