حيوانات مثقفة
ذهل كينجي إيمانيشي، عالم الحيوان الياباني، عندما شاهد، خلال قيامه بأبحاث على قرود المكاك اليابانية، في منتصف القرن الماضي، أنثى قرد تغسل البطاطا الحلوة في مجرى ماء قبل أكلها، لقد اكتشفت من نفسها، أن إزالة الرمل والحصى عن البطاطس ممكنة بغسلها في مجرى مائي. ومن ثم انتشرت عادة غسل البطاطس بين أفراد المجموعة في الجزيرة، من خلال الملاحظة والتكرار، ما دفع إيمانيشي إلى استخدام كلمة "ثقافة" لوصف هذا السلوك، وهي المرة الأولى التي تستخدم فيها عبارة ثقافة الحيوان!
ويعد مصطلح الثقافة من أكثر المصطلحات التي يلفها الغموض ويختلف معناها باختلاف ظروف استخدام المصطلح، فصفة الثقافة للفرد تختلف جذريا عن صفة الثقافة للمجتمع، كما أن للثقافة فروعها المتعددة ومواردها الكثيرة.
هذا التعقيد الذي امتاز به المصطلح، أدى إلى تشويش كبير على المعنى، وتعدد في التعريفات والتفسيرات، لكن هناك شبه إجماع بين العلماء على أنها "القدرة على نقل السلوكيات وأشكال التعبير المبتكرة غير المخزنة جينيا، من فرد إلى مجموعة ما من مجموعات النوع، ومن ثم من جيل إلى آخر".
حتى وقت قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمة خاصة ينفرد بها البشر ـ فهل سبق أن رأيت قردا في مناظرة أو نملة لا يفارق يدها كتاب، حسب فهمنا المحدود عن الثقافة ـ وأن الأنواع الأخرى تسيرها غرائزها مع امتلاكها بعض القدرة على التعلم، لكن البشر وحدهم يمتلكون ثقافة! لتأتي الأبحاث العلمية الأخيرة، وتكشف عن عدد كبير من الأمثلة الدالة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات.
يقول أندرو وايتن، من جامعة سانت أندروز الاسكتلندية، "إن الثقافة تنتشر لدى الحيوانات طيلة أعمارها، من الطفولة إلى سن البلوغ. وربما يبدأ صغار عدد من الأنواع في التعلم من والديها أولا، لكنها تتعلم على نحو متزايد من المهارات المختلفة التي يتمتع بها غيرها على غرار ما نفعل نحن البشر، بل إنها تركز على الحيوانات الفردية في مجموعتها التي تظهر أعظم الخبرات، مثلا، في استخدام الأدوات".
ويضيف، "لا بد من الاعتراف بأن الثقافة ليست قدرة بشرية فريدة نشأت من العدم، بل ترجع في واقع الأمر إلى جذور عميقة في مجال التطور. وكذلك لا بد من أن تتسع البيولوجيا التطورية لكي تتعرف على الأثر واسع النطاق المتأتي من التعلم الاجتماعي الذي يمثل نظام وراثة ثانيا مبنيا على نظام الوراثة الأساس، فتنشأ إمكانية لظهور شكل ثان من التطور متمثلا في التطور الثقافي".