رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


أزمة مزمنة وركود يقترب

الأزمة في أوروبا لم تعد حادة، لكن الأسوأ من ذلك أنها أصبحت مزمنة، فمنطقة اليورو تعاني الركود حاليا، كما تعاني ارتفاع مستويات الدين الحكومي ومعدلات البطالة، وارتفاع معدلات التضخم، وقد بلغت نسبة ذلك التضخم مستويات تاريخية عالية بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والعقوبات الغربية عليها. إن هذا السيناريو الذي يوصف بالقاسي، سيضع اقتصاد الاتحاد الأوروبي في خانة الركود خلال النصف الثاني من العام الجاري، كما سيشهد النشاط الاقتصادي تراجعا متزايدا العام المقبل.
المفوضية الأوروبية خفضت أخيرا توقعاتها للنمو في منطقة اليورو لـ2022 و2023 إلى 2.6 في المائة و1.6 في المائة، مقابل 2.7 في المائة و2.3 في المائة، وهذا كان متوقعا بسبب تزايد تأثير الحرب في أوكرانيا.
تأتي أزمة منطقة اليورو كنتيجة مباشرة للأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2008 مع انهيار بنك ليمان براذرز، حيث كانت قد بدأت الأزمة في دول جنوب المنطقة، كالبرتغال واليونان وقبرص قبل أن تشمل إسبانيا وإيطاليا بشكل أقل حدة. ورغم مرور أعوام على اندلاع الأزمة، والحلول التي أدت إلى إنقاذ الدول التي كانت ضحيتها، خاصة اليونان والبرتغال، إلا أن شبحها لا يزال قائما.
ومن هنا نلاحظ أن كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، قاومت لفترة طويلة رفع معدلات الفائدة، على أمل أن تحقق سياسة التيسير الكمي "الكريمة"، التي اتبعتها منذ وصولها إلى منصبها هذا، النمو المأمول في منطقة اليورو، لكن الأمور تمضي في اتجاه معاكس تماما، ما اضطر المشرعين الأوروبيين إلى رفع الفائدة بنسبة متواضعة بلغت نصف نقطة مئوية قبل شهرين، فالتضخم بلغ في هذه المنطقة حدودا تاريخية، واقترب من خانة العشرات، وهذا ما تخشى منه الحكومات كلها دون استثناء، كما أن ضغوط أسعار المستهلكين المرتفعة لم تترك مجالا لبنك مركزي واحد للتأخر عن رفع الفائدة، على اعتبار أنه العلاج الوحيد والسريع للحد من الموجة التضخمية الراهنة.
كل ما يريده المشرعون الأوروبيون هو إبعاد الركود عن هذه المنطقة التي لا تواجه تضخما كبيرا فحسب، بل حربا خطيرة في أوكرانيا على حدودها الشرقية، صارت منذ اليوم الأول جزءا منها.
جميع المؤشرات تدل على أن الركود سيصل إلى منطقة اليورو، وسط ارتفاعات هائلة في أسعار الوقود، إلى جانب موجة تاريخية أيضا من الجفاف، الذي دفع الحكومة الفرنسية مثلا إلى تقنين الري واستخدامات أخرى غير أساسية. ماذا يحدث أيضا؟ زادت معاناة الأسر ومعها الشركات أيضا، فالتضخم في أي مكان يلتهم الاحتياطيات المالية بصرف النظر عن نوعية أصحابها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قالها بوضوح إن زمن الوفرة انتهى، ويجب العيش وفق معطيات جديدة غير مستحبة، لكنها ضرورية، والأمر كذلك في كل دول منطقة اليورو، التي تحاول أن تصمد ليس فقط من أجل دولها وشعوبها، بل من أجل استدامة سمعتها التي باتت محل بعض من شكوك غير متوقعة، خصوصا إذا ما أضفنا الآثار النفسية الضاغطة التي خلفها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست".
ليس أمام هذه المنطقة سوى استخدام "السلاح" المتاح دائما، وهو رفع الفائدة من الآن حتى نهاية العام الجاري، وقد ألمح المشرعون بالفعل إلى خطوات بهذا الشأن، وسيتبعون زيادات ليست متواضعة قد تصل الأسبوع المقبل إلى 0.75 نقطة مئوية. ماذا يعني ذلك؟ ستنتهي تماما إجراءات التحفيز والتيسير النقدي، فكل رفع لمعدلات الفائدة يدفن جزءا من هذه الإجراءات، وإلا سيكون البنك المركزي الأوروبي تحت طائلة أسئلة تتعلق بمدى جدوى دوره في كبح جماح التضخم، ولا نقول في التخلص منه، لماذا؟ لأن عملية التخلص من التضخم هي - ببساطة - الآن شبه مستحيلة، ليس على الأوروبيين فقط، بل على معظم الاقتصادات حول العالم.
باختصار، لن يكون هناك نمو في هذه المنطقة في المستقبل المنظور على الإطلاق، والخوف الأكبر أن تدخل في ركود سيكون مؤلما كثيرا، ولا سيما في فصل الشتاء المقبل، حيث يرتفع الطلب على الطاقة. ومن المشكلات الأخرى التي تواجهها منطقة اليورو، الارتفاع الكبير في تكاليف الخدمات، وفي أسعار السلع الصناعية غير المرتبطة بالطاقة، وهذا يشكل ضغوطا أخرى على البنك المركزي للمضي قدما نحو فترة لن تكون قصيرة ستغيب عنها سياسة التيسير الكمي، للتخفيف ما أمكن من الركود التضخمي الذي يعتقد بعض المراقبين أنه قد يستمر حتى منتصف العقد الحالي.
المشكلة التي تواجه منطقة اليورو ليست خاصة بها بالطبع، لكنها على الصعيدين المعنوي والاقتصادي تبقى حساسة قياسا بمناطق أخرى حول العالم، فحتى في الولايات المتحدة هناك من لا يريد أن يعترف بالركود رغم انكماش ضرب اقتصاد البلاد لربعين متتاليين، وفي ساحة اليورو، على الجميع أن يواجه الحقائق مهما كانت مرة، وعليهم أيضا أن يغيروا بسرعة قواعد اللعبة الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي