خبز على الطاولة .. رواية تنصف المرأة وترهق الرجل
لم تخرج المرأة من تحت عباءة الرجل، ظلت تابعة له، ومولودة من ضلعه، وهذه النظرة الفوقية للمرأة، استغرقت أعواما من النضال لتغيير مفهوم العلاقة معها، كعنصر فاعل ومنتج في المجتمع، وفرد له حق وعليه واجب، بقي الرجل يعدها ملكا له، وبقيت المرأة تبحث عن وسائل تحررها من ذكورية خانقة، تنقض على أحلامها وطموحاتها وآمالها. هذا الواقع ترسخ في ذاكرتنا المجتمعية، وتناولته عديد من القصص والروايات، ولعل أبرزها رواية "بين القصرين" للأديب العالمي نجيب محفوظ الذي صور فيه هذه النمطية من العلاقة بشكل واضح، لكن مع روايتنا اليوم "خبز على طاولة ميلاد"، للروائي الليبي محمد النعاس انقلبت الصورة، وبدل نموذجية الرجل "سي السيد"، نتعامل مع شخصية مختلفة، خاضعة، خانعة، تعيش إلى حد كبير تحت جناح المرأة لا خارجه.
البداية من القرية
تدور أحداث القصة في مجتمع قرية ميلاد المنغلق، يبحث الأسطى ميلاد عن تعريف الرجولة المثالي حسبما يراها مجتمعه، يفشل طوال مسار حياته في أن يكون رجلا بعد محاولات عديدة، فيقرر أن يكون نفسه وأن ينسى هذا التعريف بعد أن يتعرف على حبيبته وزوجته المستقبلية زينب، يعيش أيامه داخل البيت يضطلع بأدوار خص المجتمع المرأة بها، فيما تعمل حبيبته على إعالة البيت، وهكذا يقلبان الأدوار الاجتماعية. تتناول الرواية تعريفات مجتمع القرية المختلفة للرجولة، لكنها، تحتفظ بتعريف واحد للرجل الضد أو "اللارجل" الذي يكون ميلاد الأسطى رمزا له. إنها رواية الانتصار للفرد في وجه الأفكار الجماعية القاتلة، ورواية الانتصار للتجربة الإنسانية إزاء كل التوصيفات الثابتة.
مجتمع يحتقر المرأة
عاش ميلاد في مجتمع ينظر إلى المرأة على أنها أداة، يتحقق من خلالها حلم الأبوة الذي لا يغريه فيه إلا ضمان استمراريته، من خلال جيل يحمل اسمه بغض النظر عن مستواه الفكري والاجتماعي والثقافي. يحتقر مجتمعه المرأة ويعنفها، صورة نمطية للرجل، رسختها التصرفات التي حققت نجاحها على حساب كرامة المرأة وكيانها واستقلاليتها. تربى ميلاد في بيئة ظالمة، تسمح للرجل ما تحرمه على المرأة، وكأنها خلقت لخدمته، ولتكون تحت طاعته، رأى ذلك في علاقة والده بوالدته، وجده بجدته، وأخته بزوجها، كل من حوله يجسد هذه الصورة، ما دفعه إلى التمرد وقلب الطاولة على مفاهيم خاطئة.
تبدو شخصية ميلاد في الرواية ناقصة، مهزوزة، تضيع بين ما تفكر فيه وبين ما تعيشه في الواقع، هو ضحية للمجتمع بشكل كبير، تربى على يد أخواته البنات، ثم العمل تحت إمرة أبيه في المخبز البتزريا، أرسله والده إلى الخدمة العسكرية، فعاش قساوة الإهانة والضرب والعنف بجميع أشكاله. ما جعلته لا يستجيب لشيء من أبيه أو عمه أو العبسي الذين يمثلون شخصيات الرجال في الرواية، ويتقبل نصيحة "خدوجة"، المرأة التي يهرب إليها بحثا عن ذكورية ناقصة.
الحب والتمرد
زينب هي الفتاة التي أحبها ميلاد منذ صغره، وهي عكس نموذج نساء القرية التي عاش فيها، أو حتى طبيعة ميلاد نفسه، وربما هذا الذي جعله يحبها ويقع في غرامها، أفكارها غير نمطية، ومتمردة بالمفهوم الاجتماعي، تعمل في وظيفة وتطمح أن تترقى وتحارب مديرها الذي يمارس ذكورته عليها، هو الرافض وهي المتمردة، ورغم هذا التناقض لم يتمكنا من تأسيس علاقة قوية بينهما، وخذلتهما الحياة، في مواقف عديدة، وأسهمت "وساويس" المجتمع من حولهما، في زيادة الشقاق بينهما.
جائزة البوكر
يقول الروائي محمد النعاس، "لست أنا الذي قدم للجائزة، فالناشر هو من يرشح أعمال الكتاب، أما أنا فكان كل همي أن أطبع روايتي، وكان نشرها هو أكبر فرحة عندي، ولم أكن أتوقع أن تدخل القائمة الطويلة، لكن حين حدث ذلك قلت إن المسافة هكذا صارت قصيرة للحصول على التتويج".
رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" مهمة وموضوعاتها شائكة ومتشعبة، وحرصها على تحدي المفاهيم الخاطئة للمجتمع، أما العنوان مشتق من المثل الشعبي الليبي "عائلة وخالها ميلاد"، وهو فيما معناه تطبيق للرجل الذي لا يتحكم في نساء بيته وعائلته.
الموسيقى وتأجيج المشاعر
الأغاني أيضا لها دور في تعميق الأحداث وتأجيج مشاعر البطل وانفعالاته وإضاءة ملامح شخصيته، الأغاني تعبر عن «ميلاد» وجيله، وفيها نوع من التسجيل لتاريخ مشاعرهم وعلاقاتهم، وهو ما عبرت عنه أغنيات أحمد فكرون وغيره من المطربين، وكان الهدف منها أن يدخل القارئ في مزاجهم، ويرسم صورة كاملة عن البطل، ماذا يحب أن يأكل ويسمع ويشاهد.
انحيازه لشخصية المرأة
يبدو انحياز الراوي إلى شخصية المرأة، من خلال استماع ميلاد إلى نصيحة خدوجة "بألا يغرر بامرأة باسم الحب ثم يتركها لتلاقي مثل مصيرها"، هو أحب زينب لكنه كان يهرب إلى خدوجة المرأة التي صورها كما يراها المجتمع شيطانة تعمل على إفساد الرجال ونشر الرذيلة، في النهاية تظهر شخصية ميلاد في تركيبتها رافضة التخلي عن الحبيبة، فلم يترك زينب في العراء، ويذهب للزواج بأخرى.
الحب وجهة نظر
"نقيض الحب مختلف تماما عن الكراهية، إنه اللامبالاة، التبلد، التباعد رغم العيش في مكان واحد، ألا تبتسم في وجه الآخر بعد أن كانت مجرد رؤيتك إياه تمكنك من الطيران، أن تنطق كلماتك اليومية صباح الخير، نعم الغذاء جاهز، والقهوة؟".
الراوية مكتوبة من خلال وجهة نظر ميلاد، هو المتحكم في عملية السرد، منح كل شخص حقه من الاهتمام، فهو يحكي ويخبر ويوجه السرد ويروي الأحداث، هناك بعض الغموض في علاقة ميلاد بأهل زوجته زينب، بينما تعمق في وصف التفاصيل التي تجمع علاقتها بأهله، وهذا الأمر عده البعض من نقاط ضعف الرواية، وذهب إلى اعتبار بعض قصص زينب تفصيل لم يضف شيئا إلى الرواية وكان يمكن الاستغناء عنه.
الخبز
من يقرأ الرواية يكتشف مدى إدراك الراوي محمد النعاس تفاصيل عن عالم الخبز، ويقول في هذا الخصوص، "قبل الرواية لم يكن لي علاقة بالخبز، لكنني حين قررت كتابتها اضطررت إلى الانخراط في عملية الخبازة، بدأت في تعلم صناعة الرغيف وتشكيل العجائن، وكانت القراءة والبحث جزءا من الوسائل التي زودتني أيضا بالمعلومات اللازمة لتشكيل شخصية ميلاد بوصفه خبازا، وقد سعيت لأن أجعل من صياغة العجين وإنضاجه كما لو كانت رمزا لعملية إبداعية مثل التأليف الموسيقي والكتابة وأي نوع من الفنون عموما".
سوداوية الرواية ونهايتها
تسيطر على الرواية الملامح السوداوية في أغلب أجزائها، يأخذ الحديث عن الخبز الحيز الأكبر من الأمثلة وله رمزيات متعددة يمكن ملاحظتها، ولغة الكتابة جيدة، سهلة وفي الوقت ذاته تحافظ على قيمتها الأدبية وتوصل المعنى المطلوب. السردية تجعلك تطرح سؤالا ما إذا كان ميلاد يعيش حياته بالفعل أو يتخيل ذلك، والنهاية كانت مربكة والشخصيات لم تأخذ أهميتها بالتساوي وجاءت أهمية بعضها على حساب البعض الآخر.