المشهد الثقافي السعودي يودع خوجة رجل الوفاء
ودع المشهد الثقافي السعودي استثناءه الكبير، والرجل الذي منح يوم الإثنين زخما كبيرا من خلال "إثنينيته"، مؤسسة ثقافية في شخص، حملت اسم الأديب عبدالمقصود خوجة، الذي استضافت داره على مدى أربعة عقود مئات المثقفين، في عمل متواصل لا يكل ولا يمل.
من خلال منتداه الأسبوعي "إثنينية خوجة"، كرم الراحل أكثر من 500 شخصية، ما بين مبدعين وأدباء ومثقفين وعلماء وقادة فكر، دبلوماسيين ومسؤولين، إلا أن المرض والوعكات الصحية أثقلت لقاءه الناس، وغابت الإثنينية اليوم عن المشهد.
الأستاذ
خوجة هو ابن لعائلة أدبية، ولا سيما أن جده عبدالمقصود عالم الأزهر الذي لقب بـ "خوجة"، وبات اسما للعائلة على مر العقود، فيما كان والده صحافيا وأديبا.
عبدالمقصود - الحفيد - لم يكن بعيدا عن أجواء الأدب، وأكسبه تنقله المستمر مزيجا من الخبرة والاطلاع على الثقافات المختلفة. فقد ولد في مكة المكرمة 1936، درس فيها ثم أكمل تعليمه في المعهد العربي الإسلامي في دمشق، ومن سورية إلى لبنان، حيث عين مندوبا من الديوان الملكي لدى المفوضية السعودية في بيروت، وبعد تحولها إلى سفارة ترأس مكتبها الإعلامي، منتقلا بعدها إلى عالم الصحافة، وأسس صحيفة "عكاظ"، ولاحقا بعد التقاعد عمل في الأعمال الحرة.
وخلال حياته، أسس خوجة عددا من الجمعيات والمؤسسات الثقافية، فهو مؤسس وعضو شرف في كل من بيت التشكيليين وبيت الفوتوغرافيين، وعضو شرف في النادي الثقافي الأدبي في جدة، ونادي مكة الثقافي الأدبي، وعضو مجلس إدارة النادي العلمي السعودي، هو أيضا عضو رابطة الأدب الحديث في القاهرة، ومجلس شرف مركز جدة للعلوم والتكنولوجيا، مجلس الآثار الأعلى، وعضو مؤسس في مركز خالد الفيصل لإعداد القيادات، والبنك السعودي الأمريكي، ومركز تاريخ مكة المكرمة.
ناشر غير ربحي
أسس خوجة للسعوديين ذاكرة أدبية، مستحضرا إنتاج الرواد والمبدعين، مع شهادات من معاصريهم، وكان يردد في أحاديثه أن تاريخنا - مع الأسف - مفرغ من التدوين، ومليء بالتناسي.
ووفقا لشهادة سعيد السريحي الناقد الأدبي، فقد كان للراحل علامتان بارزتان في حياته هما تأسيس صالون التكريم لصف النخبة من مثقفي الوطن والعالم العربي "إثنينية خوجة"، والحرص على تيسير النشر لمن يخطون خطواتهم الأولى في الأدب والثقافة، فقد كان بمنزلة دار نشر غير ربحية.
40 عاما في الإثنينية
في 1982، لمعت فكرة في ذهن عبدالمقصود خوجة، بتأسيس منتدى ثقافي يجمع نخبة الأدباء والمبدعين والعلماء من داخل المملكة وخارجها، بحضور رجال الصحافة والإعلام، وبدأت مساءاتها بتكريم الأديب عبدالقدوس الأنصاري، مؤسس مجلة المنهل العريقة، والصحافي الأديب الذي خلف والده محمد سعيد خوجة في رئاسة تحرير صحيفة "أم القرى"، أول صحيفة سعودية.
آخر من كرمته الإثنينية سليمان الذيب البروفيسور الباحث والآثاري، وعبدالله الفيفي الأديب الدكتور، تبعته رحلات علاجية للولايات المتحدة، ألقت بتبعاتها على إثنينية خوجة، حتى غابت وغاب إلى الأبد.
لم يترك خوجة في إثنينيته شخصية إلا وكرمها، كرمهم في حياتهم، وعلى مدار شخصياتها الـ500، مشى على خطى ثابتة، في الإعلان عن ضيفه المرتقب، بالتنسيق في بعض الأحيان مع النادي الأدبي في جدة، فكان خوجة يترقب فعاليات النادي يوم الأحد ليستضيف المشاركين يوم الإثنين، وأحيانا يستضيف مبدعين من شتى أنحاء المملكة وخارجها، بجهود شخصية خالصة.
في مجلس الإثنينية، وإلى جانب ضيفه المحتفى به، كان يستضيف أيضا الرواد من الأدباء والصحافة والمهتمين بالشأن الثقافي، لنقد حديث الضيف والإدلاء بشهاداتهم على فكره وحديثه، والاحتفاء بضيفه وإنتاجه، ثم توثيق اللقاء بالصورة والصوت، تمهيدا لطباعته مقروءا في سلسلة مجلدات، أصبحت لاحقا موسوعة، تحفظ الأدب المعاصر للأجيال القادمة.
وعلى موقع "الإثنينية" عبر شبكة الإنترنت، اختار عبدالمقصود خوجة أن يسهل الوصول إلى إصدار الإثنينية وأمسياتها، مدعوما بالكتب والأخبار والأوراق العلمية، التي تسجل تاريخا أدبيا كبيرا، تباطأت وتيرة توثيقه في 2015، حينما أغلقت الإثنينية أبوابها بمرض صاحبها.
عرفانا بإبداعات الرواد
كان عبدالمقصود خوجة يعي جيدا أهمية توثيق هذه اللقاءات الأدبية مع الرواد، سعوديين ودوليين، وفي لقائه صحيفة "الشرق الأوسط" قبل نحو ثمانية أعوام، تناول التحديات التي واجهها في الإثنينية، وذكر حينها "استطاعت الإثنينية التغلب على كثير من الصعوبات والتحديات التي واجهتها، منها عدم تعاون بعض أبناء الأدباء، أو ضياع الإرث الثقافي الإبداعي بسبب عدم الاهتمام بقيمته العلمية، وأحيانا يصل الأمر ببعض الأبناء إلى بيع المكتبات الخاصة بآبائهم بثمن بخس! وبإصرارنا على النجاح، استطعنا التغلب عليها بالتواصل المستمر والإلحاح، لأن هدف الإثنينية جمع وتوثيق الأعمال الأدبية للرعيل الأول من الأدباء السعوديين الذين تناثرت أعمالهم، ما صعب على المهتمين والباحثين الحصول عليها، وهو هاجس ظللنا نعانيه بشدة، لكن كان التوفيق يحالفنا، لأننا لا نبتغي من وراء ذلك منفعة مادية أو معنوية".
بأكثر من مائتي إصدار، منها "أعمال الرواد"، أسهمت في المشهد الأدبي السعودي والعربي، ورغم تكريم خوجة وإثنينيته من جهات عدة، منها جائزة مكة للتميز 2010، وتكريمها كمؤسسة ثقافية من قبل وزارة الإعلام 2010، وتقليده وسام الثقافة في معرض الرياض الدولي للكتاب في 2010، وكذلك منحه الزمالة الفخرية من قبل رابطة الأدب الحديث في القاهرة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لرجل قضى حياته في خدمة الأدب.
توفي الأديب عبدالمقصود خوجة عن عمر يناهز 86 عاما في أحد مستشفيات الولايات المتحدة الأمريكية، إثر مرض لازمه طويلا، وحياة أدبية حافلة.