يتهافت الأوروبيون على إفريقيا .. هل التاريخ يعيد نفسه؟
سرعت الحرب الروسية في أوكرانيا من تهافت القوى الكبرى على القارة الإفريقية، وأضحى إيقاع السباق في ارتفاع، بشكل مطرد مع مجريات الحرب، فتوالت الزيارات الدبلوماسية لممثلي الدول الكبرى، بحثا عن كسب ود الدول الإفريقية، بقبول المشاركة والانخراط في الخطط والبرامج، التي تعرضها هذه العواصم على الأفارقة، استعدادا وتحضيرا لعالم ما بعد الحرب.
تذهب توقعات الخبراء إلى أن هذه المعركة في بداياتها، فالتكهنات تفيد باحتدام الصراع في العشرية المقبلة، نتيجة سعي كل طرف إلى حصد ثمار سياسته في القارة السمراء. ما ينذر بانقلاب الحرب الباردة المستعرة حاليا في ربوع القارة، إلى حرب ساخنة ومواجهة وصدام، فكل طرف سيعمل على تغذية الصراع في هذه الدولة أو ذاك الإقليم، سعيا وراء النفوذ وصونا للمصالح وبحثا عن الأفضلية والامتياز.
إطلالة على استراتيجيات الأطراف المتنافسة على القارة، تعزز صحة هذه الفرضية، فحسابات أصحاب الشرعية التاريخية، الحلفاء التقليديين أمثال فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية غير رهانات الوافدين الجدد، الباحثين عن التمكين والنفوذ، بقيادة الصين وروسيا في المقام الأول، وبدرجة أقل الهند واليابان وألمانيا وآخرين.
فرنسا .. استراتيجية جديدة قصد المصالحة
اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التوجه غرب القارة "الكاميرون والبنين وغينيا بيساو"، وهو يحيي عرف الجولة الإفريقية الملزم، عقب كل انتخابات رئاسية، بحثا عن سبيل لاستعادة نفوذ فرنسا الممتد على 35 في المائة من مساحة القارة. فسلطان الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية غطى على مدار ثلاثة قرون أكثر من 20 دولة إفريقية، ما بين شمال "أربع دول" وغرب ووسط القارة "13 دولة"، فضلا عن جيوب كثيرة في المحيط الهندي "ثماني جزر".
وتتعرض باريس لانتكاسة شديدة في آخر حدائقها الخلفية في إفريقيا، منطقة الساحل والصحراء، ما اضطرها إلى تعليق العمليات العسكرية الفرنسية هناك، قبل أن تقرر باماكو قطع العلاقات الدبلوماسية مع باريس. وقبل أيام فقط، خسرت فرنسا آخر ريادة للشراكة التجارية في المنطقة المغاربية، بإعلان تونس، بداية العام الجاري، إيطاليا الشريك التجاري الأول لها، بعدما ضيعت المغرب والجزائر لمصلحة إسبانيا وإيطاليا.
وضع كارثي، أرغم ماكرون على استدعاء تاريخ فرنسا غير المشرف في القارة، بنسختيه القديمة ممثلة في الاستعمار، والحديثة مع خطط محاربة الإرهاب والتطرف، لإقناع الأفارقة بالاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه إفريقيا، التي ينتظر الكشف عن تفاصيلها كاملة أيلول (سبتمبر) المقبل، القائمة في الأساس على ثلاث ركائز: مكافحة الإرهاب، وتجديد العلاقات الفرنسية الإفريقية، والأمن الغذائي والزراعي.
أمريكا .. دبلوماسية ناعمة بدل النهج العقابي
اتجه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، جنوب القارة "جنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا"، على وجه السرعة في أعقاب سيرجي لافروف، لتقديم الأجندة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية، مستعينا بخطاب دبلوماسي ناعم، لمواجهة التنين الصيني والدب الروسي، وقبل ذلك، إقناع القادة الأفارقة بالاستراتيجية الجديدة، استعدادا للقمة الإفريقية - الأمريكية، على مستوى القادة، في واشنطن أواخر العام الجاري.
"لا ترغب في إملاء خيارات على إفريقيا"، هكذا تحدث ممثل الدبلوماسية الأمريكية في جنوب إفريقيا، ثم أضاف "ولا يجب أن يقوم أحد آخر بهذا". فالدول الإفريقية تبقى شريكا أساسيا في أكثر القضايا إلحاحا في هذا العصر. ولم يتردد الرجل في انتقاد "التعامل مع الدول الإفريقية كأدوات في تقدم الدول الأخرى، بدلا من كونها الصانعة لتقدمها".
تدرك واشنطن حجم خطيئتها في حق إفريقيا، ولا سيما خلال ولاية الرئيس دونالد ترمب، لذلك تسارع الخطى طمعا في العودة سريعا إلى القارة، بعد أعوام من الإهمال، بحثا عن موقع في ظل التهافت العالمي على القارة. وتطمح قبل ذلك، إلى تجاوز صورة الدركي الذي يحكم العالم بمنهج عقابي، فحاليا لا تزال العقوبات الأمريكية سارية على تسع دول إفريقية.
الصين .. "من أجل الجنوب العالمي"
تفضل الصين العمل بلا ضجيج، بالحرص على التطبيق الحرفي لنظرية "الصعود السلمي" (2003)، لزينج بيجيان المفكر الاستراتيجي الصيني، بعيدا عن الإثارة والأضواء. فقد حضر وانج يي ممثل الدبلوماسية الصيني أوائل العام الجاري إلى القارة "إريتريا وكينيا وجزر القمر"، للوقوف على تقدم الأشغال في المشاريع التي ترعاها بلاده، واستغل الزيارة لإبعاد تهمة "فخ الديون" عن الصين، فالأمر - بحسب الرجل - مجرد "قصة اختلقها أولئك الذين لا يريدون رؤية تطور إفريقيا. إذا كان هناك فخ، فهو فخ الفقر والتخلف".
اختارت الصين التوجه مبكرا إلى إفريقيا، وتوج هذا الاختيار بإشراك الأفارقة في مبادرة "الحزام والطريق" لإدراكها أن الموارد والأسواق واعدة في قارة المستقبل. حدث كل ذلك بلا شروط مسبقة ولا ضوابط معينة، حول طبيعة الحكم أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو غيرها من الاشتراطات التي يرفعها الغرب، فسياسة "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" تجعل الصين شريكا مرغوبا فيه في إفريقيا.
هكذا أضحت الصين أفضل شريك تجاري لإفريقيا، برقم تخطى 187 مليار دولار خلال 2020، واستثمارات مباشرة فاقت ملياري دولار برسم 2021. وحرصت على إعفاء 32 دولة من ديون متأخرة.. بذلك نجحت الصين في فرض نفسها لاعبا لا يمكن للأفارقة الاستغناء عن خدماته، وبالمثل لبكين، حيث يتوقع أن تجني الصين، بحلول 2025 عوائد تفوق 400 مليار دولار.
روسيا .. الدفاع الخشن عن استقلال القارة
اختار سيرجي لافروف أن تكون جولته نحو الشرق الإفريقي "مصر وأوغندا وإثيوبيا والكونغو"، وكان بخطابه أكثر الدبلوماسيين الأجانب صراحة ووضوحا. فقد تحدث في حضرة الأفارقة عن "مواجهة الغرب الاستعماري والجرائم التي ارتكبها"، واستعان بالتاريخ للتذكير بمواقف الاتحاد السوفياتي الداعمة لحركات التحرر في إفريقيا، متعهدا بعزم موسكو دعم استقلالية دول القارة السمراء.
تحضر موسكو في إفريقيا، منذ 2011، بصورة اللاعب الأساسي الذي يمكنه تحديد هوية المنتصر المنهزم في أي صراع. أحسنت روسيا استغلال تلك الصورة للتغلغل في دول القارة، بتقديم خدمات أمنية لقادة الدولة الإفريقية، حيث يتولى مسؤولون روس مناصب حساسة في عدد من الدول، علاوة على تسخيرها لمزاحمة فرنسا في إفريقيا، فأخرجتها من إفريقيا الوسطى، وتعمل حاليا على تكرار السيناريو ذاته في مالي.
نجحت روسيا في فرض نفسها بديلا عسكريا عن الغرب في إفريقيا، فهي أكبر مورد للأسلحة للقارة برمتها، متفوقة على واشنطن وباريس. علاوة على الحضور الأمني ذي الطبيعة الخاصة ممثلا في شركة الأمن الروسية الخاصة، المعروفة باسم "فاغنر" في عدد من الدول "ليبيا، إفريقيا الوسطى، الموزمبيق...".
وتحولت أخيرا إلى وجهة تقصد بحثا عن حلول للمشكلات الطارئة في القارة، فأوائل حزيران (يونيو) الماضي، وفي غمرة الدعاية الغربية للمقاطعة، التقى الرئيس السنغالي ماكي سال، بصفته رئيس الاتحاد الإفريقي، الرئيس الروسي، في جنوب البلاد، طالبا منه أخذ معاناة الأفارقة في الحسبان، "أطلب منك أن تدرك أن دولنا ضحية الأزمة على الصعيد الاقتصادي"، مذكرا بموقف الدول الإفريقية في الأمم المتحدة "أغلبية الدول الإفريقية تجنبت إدانة روسيا خلال عمليتي التصويت في الأمم المتحدة".
قوى كبرى تتهافت، وأخرى في طريقها إلى البحث عن نصيب من الكعكة الإفريقية، في الموارد والأسواق والاستثمارات، تنذر بتحويل القارة مستقبلا إلى ساحة للوغى، تتحدد في ضوء نتائجها معالم النظام العالمي المقبل، وكأن التاريخ يكتب على إفريقيا أن تعيد مصير القارة الأوروبية في القرن الماضي "الحربين العالميتين الأولى والثانية".